يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أبي المنذِر أُبيِّ بنِ كَعْب ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لا أعْلَمُ رَجلًا أبْعَدَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لاَ تُخْطِئُهُ صَلاةٌ، فَقيلَ لَهُ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ في الظَلْمَاء وفي الرَّمْضَاء؟ فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أنَّ مَنْزِلي إِلَى جَنْبِ المَسْجِدِ إنِّي أريدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمشَايَ إِلَى المَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أهْلِي، فَقَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذلِكَ كُلَّهُ». رواه مسلم حديث (663).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فضل بعد الممشى عن المسجد:
هذا الحديث حديث أبي المنذر أبي بن كعب ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة هذا الرجل الذي أخبر أُبيًّا أنه لا يعلم أحدًا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبعد منه مكانًا من المسجد، ومع بعد مكانه إلا أنه كان ـ رضي الله تعالى عنه ـ لا تخطئه صلاة أي: لا تفوته صلاة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بعد مقامه ومكانه.
فأشفق عليه أبي ـ رضي الله تعالى عنه ـ لشدة ما يمكن أن يلقاه في مجيئه، لاسيما في الظلماء أي: شدة الظلمة في صلاة العشاء والفجر والرمضاء في شدة الحر في صلاة الظهر، وكذا العصر في بعض الأحيان فاقترح عليه أن يشتري حمارًا أي: ما يركبه ليهون عليه المجيء ويكف عليه عناء ومشقة الحضور للصلاة فقال: إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي، وفي بعض الروايات قال: ما أحب أن بيتي إلى جواري المسجد إني أريد أن يكتب الله لي ممشاي إلى الصلاة ورجوعي.
يجمع الله للعبد كل ما احتسبه من النوايا والأجور:
أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما ذكر الرجل في جوابه لأبي ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال: «جمع الله ذلك لك كله»، وفي رواية: «إن لك ما احتسبت» أي: ما أملت وطمعت ورجوت فيما يكتب لك من الأجر، فالاحتساب هو طمع الإنسان أن ينال الثواب والأجر على ما كان من صالح عمله هذا الحديث فيه جملة من الفوائد.
شفقة الصحابة بعضهم على بعض:
من فوائده: أن الصحابة يشفق بعضهم على بعض ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وهكذا المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولذلك اقترح أبي ـ رضي الله تعالى عنه ـ على هذا الصحابي أن يشتري ما يركب فأجاب بما أجاب.
وفيه أنه كلما عظم العناء واشتدت المشقة في المجيء إلى المسجد أو في فعل العبادة، كان ذلك أعظم أجرًا وأوفر وأجزل عطاء من الكريم المنان سبحانه وبحمده.
ولهذا كانت الصلاة في الظلماء وفي الرمضاء مما يعظم الله ـ تعالى ـ به الأجر كما في حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ وفي الترمذي وغيره "بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"سنن أبي داود (561)،وسنن الترمذي (223) فكلما اشتد عناء الإنسان في فعل ما أمره الله ـ تعالى ـ به، فإنه يكون ذلك أعظم لأجره ولهذا كان إسباغ الوضوء على المكاره مما يحط الله به الخطايا ويرفع الله ـ تعالى ـ به الدرجات، لكن هذا لا يعني أن يتكلف الإنسان المشقة، فإن طلب المشقة ليس من الشرع إنما لو كان فعل العبادة لا يكون إلا بمشقة فإن ذلك يعظم الله ـ تعالى ـ به الأجر ويجزل به العطاء سبحانه وبحمده.
وفيه من الفوائد أن بعد البيت من المسجد ليس عذرًا في ترك الصلاة:
فإن هذا الرجل لم يكن أحد أبعد منه مكانًا ومنزلًا من المسجد وكان يأتي ـ رضي الله تعالى عنه ـ ويتحمل العناء لشهود الصلاة مادام أنه يسمع النداء كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأعمى أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: أجب إذن وبعض الناس إذا كان المسجد بعيدًا بعض الشيء عنه اعتذر أنه بعيد في حين أنه يبلغه صوت المؤذن طبعا من غير مؤثرات تنقل الصوت ومن غير موانع من المشوشات التي تحول دون السمع بالصوت المعتاد.
ثم في هذا الحديث من الفوائد أن الإنسان إذا احتسب على الله شيئًا، فإن الله يجمع له ما احتسب ويعطيه ما احتسب فالله كريم منان، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما روي عن ربه في الحديث الإلهي: "أنا عند ظن عبدي بي" صحيح البخاري(7405) فإذا ظن العبد بربه خيرًا أن الله يأجره وأن الله يجزيه إحسانًا على عمله، فإن الله لا يخيب رجائه، ولذلك جمع قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الرجل جمع الله لك ذلك كله أي: أجر الذهاب والمجيء.
الأجر ثابت في الذهاب والرجوع:
وفيه من الفوائد: أن الأجر المرتب على المجيء للمسجد ثابت في الرجوع، ففي كل خطوة يخطوها الإنسان يحط الله بها خطيئة ويرفعه بها درجة في ذهابه ومجيئه، يدل لذلك هذا الحديث إضافة إلى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من غدا إلى المسجدِ أو راح، أعدَّ اللهُ له نُزُلًا من الجنَّةِ كلَّما غدا أو راح» وهذا يدل على الثواب في المجيء والذهاب إلى المساجد فإن ذلك مما يعطي الله ـ تعالى ـ به الإنسان الأجر العظيم.
ميزة البيت القريب من المسجد:
وفيه من الفوائد: أن البيت القريب من المسجد له ميزة ولذلك أشار أبي ـ رضي الله تعالى عنه ـ على هذا الصحابي أن يقترب من المسجد ليكون عونًا له على الطاعة، وهذا لا يعني أن البعيد مذموم فإن فيه من الأجر ما ليس في القريب من جهة المشي، لكن لاشك أن مجاورة المسجد والقرب منه أفضل من البعد عنه ولهذا كان بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملاصقًا للمسجد وحجره ملاصقة للمسجد وما اختاره الله لنبيه أفضل من غيره.
ثم جاء حديث عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ في إسناده مقال أنه قال: الدار القريبة من المسجد بالنسبة للدار الشاسعة فضل الدار القريبة من المسجد على الدار الشاسعة يعني البعيدة كفضل الغازي على القاعد، هذا من حيث أن قرب الإنسان من المسجد يعينه على الطاعة يعينه على شهود الجماعة يعينه على القرب من الخير، ولكن هذا لا يعني أن البعيد لا أجر فيه، بل تقدم حديث بني سلمة لما هموا بالنقل إلى القرب من المسجد قال لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «دياركم تكتب آثاركم»[صحيح مسلم (665)].
فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يرزقنا الاحتساب فيما نأتي ونذر من الأعمال، والصلاة كلها خير وصلاة الجماعة تتضاعف بها الأجور، فالمجيء إليها أجر وفعلها أجر، والرجوع أجر وفضل الله واسع أعاننا الله على حسن التجارة معه اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.