قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين الحديث الثالث والعشرون:
عن أبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاصِ ـ رَضي الله عنهما ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاَهَا مَنيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَة مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلاَّ أدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ». رواه البخاريحديث رقم (2631).
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
تعدد أبواب الخير وصنوفه:
هذا الحديث حديث أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعدد أبواب الخير وكثرة طرق البر ووفرة صنوف الصالحات التي يصل بها الإنسان إلى مرضاة الله ـ عز وجل ـ ويدرك بها دخول الجنة.
الجنة هي دار النعيم الكامل وقد جعل الله ـ تعالى ـ لبلوغها وتحصيلها أعمالًا أعظم ذلك توحيده من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، وجعل من الأعمال الواجبات ما يكون موجبًا لدخول الجنة من الصلاة والزكاة والصوم والحج ثم من فضله وواسع كرمه أن جعل من أسباب دخول الجنة أعمالًا كثيرة من التطوعات والمستحبات.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً» أي: عملا من الأعمال وصفة من الصفات.
«أعْلاَهَا مَنيحَةُ العَنْزِ» يعني أعلاها من حيث المرتبة والمنزلة في استحقاق الثواب والأجر وإدراك الفضل المرتب على تلك الخصال منيحة العنز ومنيحة العنز أي: أن يمنح الإنسان غيره عنز يشرب من حليبها ولبنها، فالعنز هي أنثى الماعز ومنيحتها هي أن يهبها لمن ينتفع بها دون تمليك يعني يعطيه عنز يقول: اشرب من حليبها اشرب من لبنها وهي لمالكها يوم، يومين، أسبوع، أسبوعين على حسب ما يفتح الله ـ تعالى ـ عليه منيحة العنز طالت المدة أو قصرت.
ومنه أيضًا مما يدخل في منيحة العنز أن يمنحه لبنها، لأن منيحة العنز الغرض منه اللبن الحليب، فإن وفر عليه هذا بأن أهداه حليبًا أو لبنًا من ماشية عنده، كان ذلك داخلًا في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أعلاها منيحة العنز وذكر العنز لسهولة القيام عليها بخلاف البقر وخلاف الإبل، فإن القيام عليهما فيه من المشقة ما ليس في منيحة العنز، وفي كل الأحوال منيحة كل ما له لبن يدر من عنز أو بقر أو نوق كله يدخل في هذه الفضيلة التي ذكرها أعلاها منيحة العنز.
تحصيل الثواب بالإيمان والاحتساب:
ولم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سوى هذا العمل فذكر أعلاه وأبهم بقية الخصال الأربعين، فبقي من الخصال تسع وثلاثون خصلة لم يذكرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في مجموع هذه الخصال: "ما من عامل يعمل بهن" أي: يعمل بشيء من هذه الخصال رجاء ثوابها يعني يطمع في إدراك ما رتبه الله ـ تعالى ـ من الأجر على العمل وتصديق موعودها، يعني موقن بأن ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الثواب والأجر حاصل لمن عمل به، وهذا معنى الإيمان والاحتساب، فالتصديق هو الإيمان، ورجاء الثواب هو الاحتساب في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن صامَ رَمضانَ إيمانًا واحْتِسابًا»[صحيح البخاري (38)، ومسلم (760)] يعني تصديق الموعود ورجاء الثواب يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة وإذا نظرت هذا العمل اليسير منيحة العنز بيسرها وسهولتها لاسيما على أصحاب المواشي وهذا الأجر العظيم المرتب عليه علمت عظيم فضل الله ـ عز وجل ـ وأن دخول الجنة ليس بالعمل، إنما هو برحمة الله وفضله.
الأعمال دليل صدق، وهي مستجلبة لفضل الكريم المنان:
وأن الله ـ تعالى ـ يطلب منا هذه الأعمال ويندبنا إليها، لا لأنها موجبة لهذا الفضل العظيم والثواب الجزيل، لكنها دليل التصديق وبرهان الإيمان وهي موجبة لفضل الكريم المنان جل في علاه، فينبغي أن يجد العبد في بذل كل باب من أبواب الخير وطرق كل سبيل من سبل البر محتسبًا الأجر رجاء الثواب وموقنًا بحصول الأجر محققًا تصديق الموعود، والله لا يخلف الميعاد.
وقال حسان بن عطية الراوي عن أحد رواة هذا الحديث، فالحديث من طريق حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: فعددنا من الخصال فلم نبلغ خمس عشرة خصلة رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذى ذكر عدد، يعني أنهم تدارسوا فيما بينهم الخصال التي أبهمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبلغوا خمس عشرة خصلة وهذا اجتهاد منهم، وإلا فالخصال كثيرة إطعام الطعام من ذلك، إعانة الإنسان في حمل متاعه في قضاء حاجته في تشميت العاطس، في رد السلام، أعمال عديدة وفيرة، إكرام الجار، بر الوالدين، وعد من ذلك ما لا حصر له في الصدقات والصالحات التي تدخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلاَهَا مَنيحَةُ العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَة مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلاَّ أدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ».
الدنيا مزرعة وميدان سباق:
فلنجد ولنجتهد إخواني في الصالحات، هذه الدنيا مزرعة وهي ميدان سباق البصير العاقل الذي يدرك هذا المعنى فيجد في كل أبواب الخير المتاحة له، ولا يقتصر على عمل ولا يقتصر على باب، بل ما تيسر له من البر سبق إليه فهي فرص ومنح وهبات من الله ـ عز وجل ـ ما جاء في طريقك من الصالحات لا تفوته بل خذه واحتسب الأجر عند الله في رجاء الثواب، وأيقن أن الله لا يضيع أجر عامل من ذكر أو أنثى.
أسال الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم من أوليائه، وأن يجعلنا من حزبه المفلحين وعباده الصالحين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.