يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن عَدِي بنِ حَاتمٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: سمعت النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (1417)، وصحيح مسلم (1016). وفي رواية لهما عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنظُرُ بَيْنَ يَدَيهِ فَلاَ يَرَى إلاَّ النَّار تِلقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
لقاء العبد ربه:
هذا الحديث الشريف حديث جليل عظيم يخبر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن لقاء العبد ربه، ولقاء العبد ربه حاصل لكل أحد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾[الانشقاق: 6] فما من إنسان من ذكر أو أنثى مؤمن أو كافر إلا وسيلقى الله جل وعلا.
ولقاء الله ـ سبحانه وبحمده ـ على نوعين:
الأول: لقاء يسر به العبد وهذا لقاء أهل الإيمان.
والثاني: لقاء يسوء العبد وهذا لقاء أهل الكفر والطغيان، فإنهم يلقون الله ـ تعالى ـ فيقررهم بما كان من سيء أعمالهم ثم يسيرون إلى النار نعوذ بالله من الخذلان.
لزوم التهيؤ للقاء الله عز وجل:
وهذا الحديث الشريف بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من التهيؤ لهذا اللقاء والعمل له فقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «ما منكم من أحد أي يا بني آدم إلا وسيكلمه ربه أي: سيكلمه الله جل وعلا» وذلك يوم القيامة، وهذا الكلام كما ذكرت إما أن يكون كلام رحمة وبر وإحسان وهذا لأهل الطاعة والإحسان، وإما أن يكون تقريعًا وتوبيخًا وهذا كلام أهل الكفر والعصيان كما جاء في الحديث حديث أبي هريرة في الصحيح: «أن الله –عز وجل- يقول لعبده الكافر: ألم أزوجك ألم أربعك أكنت تظن أنك ملاقيه؟ فيقول: لا فيقول الله ـ عز وجل ـ: اليوم أنساك كما نسيتني»[صحيح مسلم (2968) بنحوه].
فهذا كلام توبيخ وتقريع وهو نوع من عذاب أهل الكفر في ذلك اليوم العظيم، أما أهل الإيمان فيكلمهم كلام بر وإحسان وتقرير بعظيم الإنعام وتبشير بما سيلاقونه من جليل الإحسان والفضل من رب يعطي على القليل الكثير «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ» يعني ليس هناك من يفسر بين العبد وبين ربه، بل يفهم العبد من ربه الكلام دون واسطة ويبلغ الله ـ عز وجل ـ العبد ما سيكلمه به بلا واسطة، يكلمه كفاحًا مباشرة ليس بينه وبينه ترجمان.
لا يبقى للإنسان إلا عمله:
«فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرى إلاَّ مَا قَدَّمَ»[صحيح البخاري (6539)، ومسلم (1016)] أي لا يرى إلا العمل الذي كان قد صحبه من الدنيا فإن الإنسان يخرج من الدنيا بلا شيء إلا بالعمل كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يتبَعُ الميِّتَ ثلاثةٌ فيرجِعُ اثنانِ ويبقى واحدٌ: يتبَعُه أهلُه ومالُه وعملُه فيرجِعُ أهلُه ومالُه ويبقى عملُه»[صحيح البخاري (6514)، ومسلم (2960)].
وهذا معنى قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾[الإسراء: 13] فإذا نظر أيمن منه وأشأم منه جهة يمينه وجهة شماله رأى أعماله التي تسره أو تسوءه كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾[آل عمران: 30] فتجد كل عمل عملته من الخير أو السوء قليلًا كان أو كثيرًا.
وجوب العمل لاتقاء النار:
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما ذكر العمل في ذلك الموقف الذي لا يفك الإنسان فيه إلا صالح عمله ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعمل الصالح وضرورة العناية به والاستكثار منه وعدم تقال شيء منه مهما كان زهيدًا في عين الإنسان، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن ذكر هذا النظر إلى اليمين والشمال والعمل ثم ينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار ما الذي يفكه منها أجارنا الله وإياكم من هذا حق يا إخوان، هذه ليست أساطير هذا حق، يقين يجب أن يعتقده الإنسان أنه سيصير إلى هذا الموقف وأنه لن يفكه من هذا الذي بين يديه من النار إلا عمله.
ولذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر النار أشاح بوجهه يعني أمال وجهه كأنه يتوقى لفحة ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتكرر منه هذا مرات في هذا الحديث، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن ذكر ذلك «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية وستر وحجاب يمنعكم منه ولو كان هذا الحجاب أقل ما يكون في أعينكم وهو شق التمرة أي شطرها، نصفها، جزئها، بعضها، فيتق النار بأدنى ما يكون من العمل، بما يسر الله له من العمل.
لا تستقل عملا للنجاة:
ومعلوم أن شق التمرة قد يستقله الإنسان ولا يراه شيئًا، لكنه عند الله عظيم، فالقليل مع الإخلاص والصدق يكون عند الله عظيمًا فكم من قليل كثره صالح النية، وكم من كثير قلله عدم الإخلاص وعدم صدق الرغبة فيما عند الله ـ عز وجل ـ «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» اجعلوا بينكم وبين النار سترًا ولو كان بشق التمرة، وذكر التمر لأنه شائع المنتشر في جهته صلى الله عليه وسلم.
فمن ليس عنده تمر في البلدان التي لا تمر فيها ثمة أقوات أخرى، هناك أنواع من القوت أخرى بر، شعير، زبيب، سائر أنواع الأطعمة التي يقتاتها الناس، فيتق الإنسان بأقل ما يكون من تلك الأقوات «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» ما عنده ماذا يصنع؟ يقعد عن العمل وعن اتقاء النار قال: لا قال: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
إذا لم تجد ما تتصدق به وتقي نفسك النار من الصدقات والإنفاق ولو كان زهيدًا قليلًا، فبالكلمة الطيبة وهنا جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين عملين عظيمين جليلين لهما أثر بالغ في النجاة يوم القيامة:
الأول: إطعام الطعام «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ تَمْرَةٍ» والناس يحقرون إطعام الطعام تجد الواحد يجلس على سفرة طويلة وفيها من الأطعمة ويأكل ما يأكل ثم بعد ذلك يقوم وقد يكل الأمر إلى خدم أو إلى عامل أو إلى أحد فيضع هذا الطعام في سلات المهملات في حين أنه لو أخذه وتصدق به لكان هذا وقاية له من النار.
ولذلك لا تفرط ولا بحبة أرز بأقل ما يكون، فمثقال الذرة ينجيك يوم القيامة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾[الزلزلة: 7] لا تبخل شيئًا ولا تبخل على نفسك بشيء من صالح العمل، تجد من ينتفع بهذا من إنسان أو حيوان وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».
لين الكلام:
وهذا إشارة إلى ثاني ما يدخل به الناس الجنة من الأعمال الميسرة لهم وهو لين الكلام، طيب الكلام، ولين الكلام وطيبه هو أن تتكلم بكلام يدخل به السرور على غيرك تطيب به قلوبهم تطمئن به نفوسهم ولو بالسلام، فإن السلام من أسباب دخول الجنة ولذا قال: «أوَلا أدُلُّكُم علَى شَيءٍ إذا فعلتُموه تحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ»[صحيح مسلم (54)] فالسلام سبب من أسباب دخول الجنة، ولذلك كان أولى الناس بالله أبدرهم إلى السلام كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود يا إخوان أن لقاء العبد لربه حق على حقيقته، وأن الله يكلم عباده ـ جل في علاه ـ فأعد لهذا الموقف ما تسر به فليس معك ولد ولا والد ولا جاه ولا مال ولا منصب، ليس معك إلا العمل ينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وأشأم منه فلا يرى إلا ما قدم.
اللهم أعنا على طاعتك واستعملنا فيما تحب وترضى، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعلنا ممن يسر بلقائك ويفوز يوم العرض عليك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.