قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في باب بيان كثرة طرق الخير الحديث الرابع والعشرون:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ، فَيَحمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا». رواه مسلمحديث رقم (2734).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
لطف الله بعباده في الرضى عنهم لأقل الأعمال:
فهذا الحديث الشريف فيه بيان عظيم بر الله ـ عز وجل ـ ولطفه وإحسانه بعباده، فإن الله ـ تعالى جل في علاه ـ يحب من عبده أن يقبل عليه بقلبه وأن يقر بفضله ولذلك كان الإقرار بإنعام الله ـ عز وجل ـ وأنه المتفضل على العبد من موجبات فضله وإحسانه وجزيل منه على عباده، إن الله ليرضى عن العبد هكذا يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله ليرضى عن العبد ورضاه يتضمن قبوله للعبد، وعظيم إثابته وولايته وجلب كل خير له ودفع كل شر عنه.
هذه كلها من لوازم رضا الله ـ تعالى ـ عن عبده، فإذا رضي الله ـ تعالى ـ عن عبده قبله، وإذا رضي الله ـ تعالى ـ عن عبده تولاه وإذا رضي الله ـ تعالى ـ عن عبده أحبه، وإذا رضي الله ـ تعالى ـ عن عبده ساق له الخير، وإن رضي الله ـ تعالى ـ عن عبده دفع عنه كل مكروه وهذا الجزاء الجليل المذكور في هذا الحديث على عمل من أيسر ما يكون من الأعمال حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ، فَيَحمَدَهُ عَلَيْهَا» أي: يأكل الطعام ولو مرة واحدة، والأكلة فعلة على معنى مرة أي أنه يأكل ولو مرة واحدة فيحمده عليها أي: فيشكره ـ جل وعلا ـ الحمد هنا بمعنى الشكر المتضمن إقرار العبد بإنعام الله عليه بقلبه، والمتضمن أيضًا النطق والقول الذي يظهر به حمد الله وثناءه عليه ويتضمن أيضًا المعنى الثالث أن يسخر ذلك فيما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه يستعمل هذه النعمة فيما يحبه الله ـ تعالى ـ ويرضاه فيحمده عليها «أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» ولو كان ذلك من أيسر ما يكون من الشربات أو نحوه وكذلك من أيسر ما يكون من الطعام ولو كان شق تمرة.
صغار الأعمال تجر إلى كبارها:
كل هذا يوجب رضا الله ـ عز وجل ـ إلا أنه ينبغي أن يعلم أن العبد إذا كان على هذه الحال في صغير النعم فإنه سيكون على هذه الحال في عظيمها، ولهذا أثبت الرضا في هذه الحال لأن من حمد الله على اليسير فإنه لن يتأخر عن حمده والثناء عليه في الجليل والكبير.
ولهذا الرضا الموعود به هنا ليس فقط على فعل ذلك مع الغفلة عن حمده والثناء عليه في جليل النعم، إنما جزاء الله ـ تعالى ـ لعبده الذي يرى فضل الله عليه وإحسانه إليه في هذا الدقيق من الأمر وهذا الصغير من الشأن لاشك أن ذلك دليل على صلاح قلبه واستقامة فؤاده وأنه مقر بإنعام الله عليه مضيف كل نعمة تساق إليه من ربه جل في علاه.
بماذا يكون الحمد وعلى ماذا؟
والحمد كما ذكرت يكون بالقلب إقرارًا بفضل الله وإضافة للنعمة إليه وأنه متفضل على العدل بالإيمان، وأيضًا يكون باللسان ولو بقول الحمد لله، وقد وردت صيغ عديدة لحمد الله على الطعام والشراب، فكل ذلك إذا جاء به الإنسان في مأكله ومشربه أدرك هذه الفضيلة، ثم كذلك في شربه ولو كان ذلك في شرب عارض كشرب الشاي أو القهوة أو نحو ذلك، فلا يقيده بنوع من الأكل ولا بنوع من الشرب ثم اعلموا أيها الإخوة أن هذا العطاء الجزيل هو أعظم ما ينعم الله ـ تعالى ـ به على العبد، فأعظم ما يمن الله ـ تعالى ـ به على العبد أن يحل عليه رضاه.
أعلى نعيم أهل الجنة أن يحل عليهم رضوانه ويجعلهم يرونه سبحانه:
ولهذا كان أعلى نعيم أهل الجنة نسأل الله أن يكون منهم أن يحل الله ـ تعالى ـ رضوانه عليهم، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لأهل الجنة «إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ. فيقولون: لبَّيكَ رَبَّنا وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يديكَ. فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نَرضَى يا رَبِّ، وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلْقِك؟! فيقولُ: ألَا أُعطِيكم أفضَلَ مِن ذلك؟ فيقولونَ: يا ربِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بَعدَه أبدًا»[صحيح البخاري (6549)، ومسلم (2829)] فكان هذا الذروة في نعيم أهل الجنة.
ومضمونه أن يروه جل في علاه كما في الحديث الآخر، أن يروه ـ سبحانه وبحمده ـ ويتنعموا بالنظر إلى وجهه، ولهذا لا تظن أن الرضا المذكور في الحديث عطاء قليل، بل هو عطاء جزيل وإنعام عظيم هو أعلى نعيم أهل الجنة نسأل الله أن يكون منهم، وهذا ينبه العبد إلى أن الله كريم منان جل في علاه لا يطلب من العبد شيئًا عسيرًا شاقًا، بل يرضى جل في علاه من العبد أقل ما يكون من الطاعة أن يحمده على الشربة وعلى الأكلة، ومن عجز عن إدراك رضا الله بهذا السبب، فعجزه عن إدراك رضا الله بما هو أكبر أولى وأظهر.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم رضوانه وأن يجعلنا وإياكم ممن يعمل على الفوز بأسباب رضاه جل في علاه، وأن يجعلنا من أهل النعيم وأن يرزقنا شكر نعمه ظاهرًا وباطنًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.