قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب بيان كثرة طرق الخير الحديث الخامس والعشرون:
عن أَبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» قَالَ: أرأيتَ إنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» قَالَ: أرأيتَ إن لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» قَالَ: أرأيتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، قَالَ: «يَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ أوِ الخَيْرِ». قَالَ: أرَأيْتَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (6022) ، وصحيح مسلم (1008).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذا الحديث حديث عبد الله بن قيس أبي موسي الأشعري رضي الله تعالى عنه.
فيه بيان عظيم فضل الله ـ تعالى ـ على عباده بتنويع الطرق والسبل الموصلة إليه.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» والأصل في الصدقة عند الإطلاق يراد بها بذل المال في أوجهه التي شرع الله تعالى صرف المال فيها من الإنفاق الواجب والزكوات وسائر أنواع التبرعات «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» وهذه الصدقة يتبادر إلى الذهن أنها من المال، ولذلك قال الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرأيتَ إنْ لَمْ يَجِدْ» أي ما يتصدق به من المال والنقد وسائر ما يبذل من الصدقات قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ» وهذا جريًا على ما فهموا من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» أنها من صدقة من صدقات المال.
قال: يعمل أي يكد ويجتهد في أنواع العمل الذي يكتسب منه مالًا فينفع نفسه بالاغتناء والاكتفاء ويتصدق بما زاد في أوجه الصدقة من النفقات الواجبة وغير ذلك مما يتبرع به من الأموال.
الأجر أكبر طالما كان العطاء لمحتاج أشد:
ثم قالوا: يا رسول الله «أرأيتَ إن لَمْ يَسْتَطِعْ» يعني إن لم يستطع العمل للتكسب والصدقة قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ المَلْهُوفَ» يعين صاحب الحاجة، والملهوف هو المتحسر على فواتها أو المظلوم وقيل: المضطر والمقصود الملهوف الذي بلغت به الحاجة منتهى الرغبة في تحصيلها، فلهفت نفسه ووجدت اضطرارًا في فقد هذه الحاجة، وهذا يدل على أن الحاجات متفاوتة وليست على مرتبة واحدة.
فكلما كان الإنفاق في الإعانة لمحتاج أشد حاجة كان ذلك أعظم أجرًا.
الأمر بالمعروف من أعظم الأعمال:
قالوا يا رسول الله «قَالَ: أرأيتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» أن يعين صاحب حاجة ملهوف قَالَ: «يَأمُرُ بِالمَعْرُوفِ أوِ الخَيْرِ» وهذا انتقال منه.
يعني انظر التدرج في الصدقة، بدأ بصدقة المال ثم بعد ذلك بالصدقة بالبدن وهو الإعانة لذي الحاجة الملهوف ثم قال: يأمر بالمعروف وهذه الصدقة بالقول، فالكلمة الطيبة صدقة كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال: "يأمر بالمعروف أو الخير" وهذا يشمل كل أوجه الخير، ويشمل هذا الأمر بالواجبات والنهي عن المحرمات والأمر بالفضائل والدلالة على الخير وإدخال السرور على المسلم، وما إلى ذلك مما يكون فيه خير في المعروف هنا يشمل كل ذلك وهو بمعناه الواسع.
الإمساك عن الشر:
قالوا: يا رسول الله أرأيت إن لم يفعل؟ يعني ترك وليس عجزًا إنما ترك، أرأيت إن لم تفعل قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يمسك عن الشر فإنه صدقة».
فقوله: "يمسك عن الشر" أي يكف نفسه عن الشر، والشر مراتب ودرجات.
أعلى الشر ترك الواجبات والفرائض ثم بعد ذلك الوقوع في المحرمات، سواء كانت المحرمات فيما يتعلق بحق الله أو فيما يتعلق بحق الخلق، فالشر هنا اسم جامع لكل ما يحصل به ضرر على الإنسان أو على غيره في حق الله وفي حق العباد، ولذلك قال: "يمسك عن الشر" يعني إذا لم يبذل من الصدقات المالية والصدقات البدنية والصدقات القولية ما يتقرب به إلى الله فإنه يتقرب إلى الله بالإمساك عن الشر والإمساك عن الشر يشمل كف النفس عن ترك الواجبات كالصلوات والمفروضات من الزكاة والصوم وغير ذلك ومما يتعلق بحقوق الخلق كبر الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الجار ونحو ذلك يمسك عن الشر باجتناب ترك ما أوجب، وباجتناب ما حرم ـ سبحانه وتعالى ـ فإنه صدقة.
أي إنه مما يجري الله ـ تعالى ـ به على الإنسان أجرًا، وهذا الحديث في الحقيقة دال على أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» أن ذلك على وجه الندب وليس على وجه الوجوب؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين لهم أبواب الصدقات المالية والصدقات القولية والصدقات البدنية ثم لما قالوا: أرأيت إن لم يفعل ما قال: يأثم بل قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسك عن الشر.
فالإنسان إذا ترك كل هذه الأبواب من أبواب الصدقة، فإنه بقيامه بما أمر الله ـ تعالى ـ به وبما فرض الله ـ تعالى ـ عليه يكون له بذلك أجر، ولهذا يا إخواني لا يعدم الإنسان باب من أبواب الخير فإذا قصرت عن النوافل والتطوعات فلا تبخس نفسك في الواجبات والفرائض، فإن الحد الأدنى الذي إذا تركه الإنسان وقع في المحرم وإذا أخل به كان ذلك موجبًا للإثم والواجب على كل مؤمن أن يجد في أبواب الخير وألا يحرم نفسه فإن ذلك مما يقربه إلى الله ويشرح صدره وينال به كل طمأنينة وحياة طيبة، فإن العمل الصالح مما يفتح الله تعالى به على الإنسان أبواب السعادة والسرور والانشراح والحياة الطيبة قال ـ تعالى ـ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 97].
فنسأل الله أن يستعملنا وإياكم في الصالحات، وأن يعيننا وإياكم على الطاعات، وأن يصرف عنا المعاصي والسيئات، وأن يجعلنا من عباده المتقين وحزبه المفلحين وأوليائه الصالحين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.