الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: باب الاقتصاد في الطاعة.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أنَّ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عَلَيْهَا وعِندها امرأةٌ، قَالَ: «مَنْ هذِهِ؟» قَالَتْ: هذِهِ فُلاَنَةٌ تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا. قَالَ: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَواللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.صحيح البخاري (43) صحيح مسلم (782)
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
الاقتصاد في العمل: هذا الحديث, حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في بيان ما وجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الاقتصاد في العمل بما لا يوقع الإنسان في الملل قالت ـ رضي الله عنها ـ: "دخل عليَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندي امرأةٌ تذكر من صلاتها"، أي تخبر عائشة بصلاتها.
وهذا الخبر فيما يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أنها كانت تسأل عائشة عن هذه الصلاة ومدى سلامتها من المؤاخذة، وليس المقصود في ذكر هذا العمل أنها تطلب مدح الناس وثناءهم؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يتطرق لهذا في التنبيه إلى أن لا يظهر الإنسان عمله وأن يخفيه وأن يكون بينه وبين ربه، قال: «تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا» يعني أنها كانت تصلي من الليل صلاةً طويلة وقد جاء في بعض الروايات أنها لا تنام الليل أي أنها تصلي الليل كله.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة وهي تقص عليه عمل هذه المرأة «مَهْ» أي توقفي عن هذا الحديث، كلمة «مَهْ» طلبٌ للتوقف عن هذا الحديث والفعل، وأن هذا الفعل ليس بصحيح والسبب في ذلك أنه خارجٌ عن هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلي من الليل يقوم وينام ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي الليل كله في كل أيامه بل لم ينقل عنه ذلك إلا في العشر الأواخر أنه كان يحي ليله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العشر الأواخر من رمضان وهذه فترة للاجتهاد والجد في طلب ليلة القدر.
وأما في سائر الليالي فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غالب حاله أنه يجمع في ليله بين نومٍ وصلاة، فلما أخبرتها بهذا العمل أنها كانت تصلي الليل كله أو لا تنام الليل صلاةً، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَو اللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» أي إن الله ـ تعالى ـ لا يترك الإثابة على العمل حتى يترك الإنسان العمل.
وهذا تنبيه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن إكثار الإنسان من العمل بما يشق عليه ويخرج عن المألوف والمعتاد ويتنافى مع الطبيعة مما يلحقه الانقطاع، يعني يتسبب في انقطاعه، فإنه من يقيم الليل كله كل ليلة لا يمكن أن يدوم على هذه الحال؛ لأن هذا عمل شاق, والإنسان يحتاج إلى قسطٍ من الراحة، والله ـ تعالى ـ جعل الليل لباسًا أي محلاً للنوم، فمهما نام نهارًا فإنه لن يكفيه عن حاجته من نوم الليل ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَهْ! عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَو اللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا» أي لا يمنع العبد الإثابة والجزاء على عمله والتفضل عليه بالعطاء إلا أن يتوقف الإنسان عن العمل، وما الذي يجعله يتوقف عن العمل أن يكلف من العمل ما لا يطيق، أن يشتغل بطاعةٍ تخرج عن المألوف وعن المعتاد الذي تطيقه الأبدان.
الدين يسر: وهذا التوجيه النبوي يشير إلى ما يتعلق بالتطوعات والنوافل، أما الفرائض فإنها لا تخرج عن حد الإطاقة والاستطاعة فقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق:7] ،﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] ، وهذا الدين يسر، ومن يسره أنه كلفنا من الواجبات ما نطيق، لكن فيما يتعلق بالتطوعات قد يزيد الإنسان شيئًا على طاقته وعلى قدرته، هنا يقال له «مَهْ» أي كف عن هذا وخذ من العمل القدر الذي تطيقه ثم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحب العمل إلى الله فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ» أي ما استمر عليه صاحبه، وهذا إشارة إلى أن العمل إذا كان مما يطيقه الإنسان أصبح له سجية وعادة, فلا ينقطع عنه بخلاف العمل الذي لا يطيقه فإنه لا بد أن ينقطع عنه.
أحب الأعمال أدومها وإن قل:
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ» يعني أحب العمل, فسمى العمل دينًا، وهذا دليل على أن الأعمال من الدين، وهو ردٌ على المرجئة الذين يقولون: الإيمان بالقلب ولا يضرك عمل، عملت أو ما عملت فلا يضرك وهذا من أفسد الأقوال على دين الإنسان أن يعتقد أن الأعمال لا قيمة لها وأن المدار على إيمان القلب، إيمان القلب أصلٌ وله ثمار تكون في الأقوال والأعمال ضرورة أن تبدو هذه الثمار إذا لم يكن ثمة مانع لتصدق الإيمان.
والمقصود يا إخواني أن الإنسان يجد ويجتهد في الطاعة والإحسان طاعته وقدرته وينوع أبواب الخير ولا يفرط، لكن لا يخرج في ذلك كله عن الحد الذي يكون مطيقًا له، فيكون سببًا في انقطاعه عن العمل، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثٍ آخر «أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»صحيح البخاري(6464)وصحيح مسلم (783) فحافظ على القليل فإن ذلك مما يجري عليك خير الله وفضله وإحسانه على وجه الدوام.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.