الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه رياض الصالحين:
عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». رواه البخاري.
وفي رواية: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا واغدوا وروحوا وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ القصد القصد تبلغوا».
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
خاتمة الرسالات وأجمعها: هذا الحديث الشريف حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه بيان أعظم ما ميز الله ـ تعالى ـ به دين الإسلام عن سائر الأديان، فإن الله ـ عز وجل ـ جعل هذه الرسالة خاتمة الرسالات، ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب:40]، فختم الله تعالى بهذه الرسالة الرسالات وجعل فيها من المزايا والخصائص ما ليس في غيرها لا من جهة لاعتقاد في تمام التوحيد والإخلاص لرب العالمين، ولا فيما يتصل بالعمل، فإن هذا الدين رحمة.
ملة الحنيفية السمحة:
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان كمال الاعتقاد والعمل في ما جاء في المسند من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ «بعثت بالحنيفية السمحة» مسند الإمام أحمد(22291) الحنيفية: الإخلاص والتوحيد لله فليس في الشرائع السابقة كهذه الشريعة من جهة تمام الإخلاص لله، كلها تدعو إلى التوحيد، جميع الرسل يدعون إلى لا إله إلا الله، لكن هذه الرسالة جاءت بكمال هذا الأمر وتحقيقه على وجهٍ وافٍ لا نقص فيه من جهة تمام الإخلاص لله ـ عز وجل ـ في القول وفي الاعتقاد وفي العمل.
وأما من جهة الأعمال فهي جاءت بشريعةٍ نفى الله ـ تعالى ـ فيها عن أهل الإسلام كل ما فيه عسرٌ ومشقة، وما فيها آصار وأغلال وضيق وحرج، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج:78]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة:185]، ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:17].
يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسرٌ» يخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا الإسلام الذي جاء به، هذا الدين الذي أوحي إليه أنه يسر، ومعنى أنه يسر أي أنه لا مشقة فيه، ولا تكليف بما لا يطيقه الناس، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق:7] ، كما أن الله ـ تعالى ـ فرض فيه الشرائع والواجبات والفرائض على قدر استطاعة الإنسان كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16] ، فالدين من حيث هو لا تكليف فيه بما يشق على الناس.
المشقة تجلب التيسير:
ثم إن الله ـ تعالى ـ من رحمته أن جعل مواطن المشقة والعناء محلاً لليسر، فإذا شق على الإنسان أمرٌ جعل الله ـ تعالى ـ له مخرجًا بما يكون من التيسير والتسهيل الذي يناسب حاله، ولذلك تجد أن الله ـ عز وجل ـ جعل من رخص السفر ترك الصيام المفروض، من رخص السفر القصر في السفر، من رخص السفر الجمع، كذلك في المرض، كذلك في الخوف ثمة رخص في كل الأحوال التي يخرج فيها الإنسان عن حال كمال الطاقة والقدرة، وهذا من يسر الإسلام.
اليسر ليس التسيب:
فيسره من حيث أصله أن الله لم يكلف الناس إلا ما يطيقون، ومن حيث ما يمكن أن يطرأ على الناس من أحوال تستوجب التخفيف، وهذا اليسر في الفرائض والواجبات كما أنه يسرٌ فيما ندب إليه من النوافل والتطوعات سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية، كل ذلك لا يخرج عن يسر الشريعة التي جاء بها الإسلام، لكن من المفاهيم المغلوطة التي ينزل فيها بعض الناس هذا الحديث النبوي على غير موضعه أن يستدل به على التخفف من أحكام الشريعة وعدم القيام بها، فتجده يسرق، يزني، يغتاب، يأكل مالاً حرامًا ويقول: الدين يسر، هذا ليس دينًا، هذا مخالف للدين، ولا يمكن أن تقر الشريعة هذه المحرمات، ولو أن الشريعة أذنت بهذا لما كان في ذلك تحريمٌ لها وتغليظ في شأنها وعقوبة مرتبة عليها.
فهذا من تنزيل الكلم في غير موضعه ومن تحريف الكلم عن مواضعه ومن وضع الحق في مقام الباطل، فإن الدين يسر في ذاته، فيما شرعه الله من الواجبات والفرائض ومن المحرمات، فإن الله لم يمنع الناس ما تقوم به مصالحهم أو ما لا يتمكنون من الانفكاك عنه، بل لم يحرم عليهم شيئًا إلا جعل لهم في الحلال منه ما يغنيهم عنه إلا أن يكون ضارًا لا مصلحة فيه كالخمر مثلاً، فإن الله لم يجعل لها عوضًا مما يغيب العقول؛ لأن تغييب العقول مضرة لا مصلحة فيه، ولا يمكن أن يحقق به الإنسان خيرًا لا في دينه ولا في آخرته.
أصل من أصول الشريعة:
ولذلك هذه الكلمة العظيمة يجب أن يعلم المؤمن أنها أصلٌ من أصول التشريع وأصلٌ من أصول هذه الديانة وسمة من سماتها الرئيسة ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أنه ما من أحد يخرج عن اليسر بالتشديد والزيادة في الدين بما لم يشرعه رب العالمين أو بتكليف نفسه ما لم يكلفه الله ـ عز وجل ـ إلا عاد بالضيق على نفسه والانقطاع، ولذلك قال: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ» لن يشاد الدين أي لن يغالب الدين أحد يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله عز وجل عليه، إلى الزيادة على ما شرع الله له وما فرض عليه، فهذا ينقطع لا بد أن ينقطع.
القليل الدائم خير من الكثير المشق:
ولذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى من عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ زيادة في العمل الصالح فكان يصوم ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فقال: «ألم أخبر بأنك تقوم ولا تنام وتصوم ولا تفطر»، قال: بلى يا رسول الله، قال: «فإنك إن فعلت ذلك هجمت عينك» أي غارت، هجمت عينك أي ضعفت وغارت بسبب طول السهر، «ونفهت نفسك» يعني كلت وملت، ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «صم وأفطر وقم ونم»[صحيح البخاري (1153)] فبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الزيادة في العمل الصالح عن الحد الذي شرعه الله عز وجل يعود بالعكس على الإنسان، لا يزيده طاعة، لا يزيده قربًا، بل يفضي به إلى الانقطاع، ولهذا قال: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ» أي سيعود على نفسه بالانقطاع عن العمل الصالح، هذا معنى غلبه، والله تعالى أعلم، ونكمل بقية الحديث في مجلس آخر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.