إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرِ أَنْفُسِنا, وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا, مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمْنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدًا, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ شَهادَةَ حَقٍّ تُنَجِّيِ قائِلَها مِنَ النَّارِ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ أَيَّها المؤْمِنوُنَ, اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ حَقَّ التّقْوَىَ؛ فَإِنَّهُ لا تَزُوُلُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ القِيامَةَ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ مالِهِ «مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ»الترمذي(2417), وَقالَ حَسَنٌ صَحيحٌ:, فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ, وَانْظُروُا فِيما يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَمْوالِ, وَفيِ عَمَلِكُمْ في هَذِهِ الأَمْوالِ, وَأَيْنَ تَضَعوُنَ هَذِهِ الأَمْوالَ؛ فَإِنَّكُمْ مَسؤوُلوُنَ عَنْها بَيْنَ يَدَيْ العَزِيزِ الغَفَّارِ, مَسْئوُلوُنَ عَنِ الدَّقِيِقِ وَالجَليِلِ وَالصَّغيِرِ وَالكَبيرِ, وَلا يَحْسِبَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَّ شَيْئًا مِنَ المالِ الحَرامِ هُوَ مَغْفوُلٌ عَنْهُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَىَ قَالَ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾الزلزلة: 7- 8 وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَلَفَ عَلَىَ يمينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِها مالَ امْرِئٍ مُسْلمٍ، هُوَ فيها فاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ» (فقالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كانَ شَيْئًا يَسيِراً يارَسوُلَ اللهِ) يَعْنِي وَلَوْ كانَ المالُ الَّذِيِ اقْتَطَعْتُهُ بِاليَميِنِ الفاجِرَةِ عُوُدٌ مِنْ أَراكٍ َيعْنِي سِواكاً (قالَ: وَإِنْ قَضيباً مِنْ أَراكٍ)أخرجه: البخاري ح(4549)ومُسْلِمٌ ح(138)مِنْ حَديثِ ابْنِ مَسْعوُدٍ, وَمابَيْنَ القَوْسَيْنِ مِنْ حَديثِ أَبِي أُمامَةَ,أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ح(137)فَاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ وَاطْلُبوُا الحَلالَ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ يَسَّرَ لَكُمْ مِنَ الحَلالِ ما تَْحصُلُ لَكُمْ بِهِ الكفايَةُ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ حِفْظَ المالِ مِنْ المقاصِدِ الكُبْرَىَ في شَريعَةِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- وَمِنَ الضَّرورِيَّاتِ الخَمْسِ في دِيِنِ الإِسْلامِ, وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعالَىَ في كِتابِهِ في مَواضِعَ عَديدَةٍ بَيَّنَ فيها مَكانَتَهُ وَعَظيمَ المنَّةِ بِهِ وما يَجِبُ فِيِهِ وَما يَحِلُّ مِنْهُ وَما يَحْرُمُ في بَيانٍ مُفَصَّلٍ في كِتابِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ، فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ, وَاحْذروُا الفِتَنَ كُلَّها ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ, وَتَعوَّذُوُا بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ ظاهِرِها وَباطِنِها, وَاعْلَموُا أَنَّ مِنْ أَشَدِّ الفِتَنِ خَطرًا عَلَىَ المؤْمِنْ وَأَكْبَرِها ضَرَرًا عَلَىَ الفَرْدِ وَالجَماعَةِ فَتْنَةً المال فإن المال حُلوة خَضِرةٌ؛ وَلِذَلِكَ حَذَّرَ اللهُ عِبادَهُ مِنْ فِتْنةِ المالِ فَقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾المنافقون: 9 وَقالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾الأنفال: 27-28 أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ المكاسِبِ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ الأَوْلادِ والتِّلادِالتِّلادُ: أيْ المالُ القَديمُ الموْروُثُفاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ وَانْظروُا حَقَّ اللهِ في المالِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُ عَظيِمَةٌ جَاءَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عِياضٍ قالَ سَمِعْتُ رَسوُلَ اللهِ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقوُلُ: «إنّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً وفتنةُ أُمَّتي المالُ»أخرجه الترمذي ح(2336), وقالَ: حسنٌ صحيحٌوفي الحَديثِ الصَّحيحِ مِنْ حَديثِ أَبَي موُسَيَ الأَشْعَرِيِّ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَّا إنَّ الدِّينارَ والدِّرْهَمََ أَهْلَكا مَنْ كانَ قبْلَكُمْ وَهُما مُهلِكاكُمْ»أخرجه ابن حبان ح(694) أَهَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ أَيْ مِنَ الأُمَمِ وَهُما مُهْلِكَاكُمْ وَذَكَرَ الدِّينارَ وَالدِّرْهَمَ؛ لأَنَّها أَصْلُ أَمْوالِ النِّاسِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهُ, إِنَّ المالَ فِتْنَةٌ عَظيِمَةٌ تَبْلُغُ بِبِعَضْ النَّاسِ أَنْ يكوُنوُا عَبيِدًا لِلدَّرْهِمِ وَالدِّينارِ, وَقَدْ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ»أخرجه: البخاري ح(2887), وَهَذا يُبَيَّنُ عَظيمَ ما يؤوُلُ إِلَيْهِ حالُ المُفْتَتِنِ بِالمالِ؛ فاتَّقوُا اللهَ عبِادَ اللهِ, وَاحْذروُا هَذِهِ الفِتْنَةَ؛ فَفَتْنَةُ المالِ لَها أَوْجُهٌ عَظيمَةٌ تَكوُنُ في كَسْبِهِ, وَتَكوُنُ في إِمْساكِهِ, وَتَكوُنُ في صَرْفِهِ, وَتكوُنُ في تَعَلُّقِ القَلْبِ بِهِ, كُلُّ هذِهِ مِنْ أَوْجُهِ الفِتَنِ في المالِ؛ فاحْذَرْ أَنَّ يَتَطَرَّقَ إِلَيْكَ شَيْئٌ مِنَ الخَلَلِ أَوْ مِنَ الانْحرافِ في كَسْبِكَ فَطَهِّرْهُ وَطَيِّبْهُ.
وَفي إِمْساكِكَ لِلمالِ كُنْ في ذَلِكَ: عَلَىَ نَحْوْ ما أَمَرَكَ اللهُ تَعالَىَ, مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلا قَتٍَر, وَفي صَرْفِهِ وَبَذْلِهِ بِوَضْعِهِ في مِواضِعِهِ الَّتي شَرَعَ اللهُ تَعالَىَ, وفي تَعَلُّقِ القَلْبِ بِهِ فاحْذَرْ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَلْبُكَ بِالمالِ؛ فالمالُ خَادِمُكَ لا تَكُنْ خادِمًا لَهُ المالُ خادِمُك لا يُصَيِّركَ خادِمًا لهُ
.أَيُّها المؤْمِنوُنَ, عَبادَ اللهِ, حَذَّرَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ فِتْنَةِ الكَسْبِ الحَرامِ وَقالَ فيما أَخْبَرَ مِنْ علاماتِ الزَّمانِ قالَ: «لَيَأْتِيَنَّ على النّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ»أخرجه البخاري ح(2083)لا يُبالي: أَيْ لا يَحْسِبُ وَلا يُفَكِّرُ وَلا يَهْتَمُّ بما أَخَذَ مِنَ المالِ أَمِنَ حَلالً أَمْ حَرامٍ, إِنَّما شَأْنُهُ وَهَمَّهُ أَنْ يَكوُنَ المالُ في يَدَيْهِ كَثيرًا وَفِيرًا, وَأَنَّ يَكوُنَ الرَّصيِدُ عَالِيًا كَبِيرًا، وَكَمْ مِنْ رَصَيِدٍ عالٍ كانَ وَقوُدًا لِصاحِبِهِ يوْمَ القِيامَةِ يُكْوَىَ بِها جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ وَجَبينُهُ.
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بَيانِ فِتْنَةٍ أُخْرَىَ مِنْ فِتَنِ المالِ قالَ: «واللَّهِ ما الفَقْرَ أَخْشى علَيْكُم، وَلَكِنِّي أَخْشى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيا علَيْكُم كما بُسِطَتْ على مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها، وَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ»أخرجه البخاري ح(4015), ومسلم(2961) والتَّنافُسُ هُوَ: المُغالَبَةُ في أَخْذِ الشِّيْءِ مِنْ أَيْ وَجْهٍ كانَ سواءٌ كانَ مِنْ حلالٍ أَوْ حرامٍ كما قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «لَيَأْتِيَنَّ على النّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ»أخرجه البخاري ح(2083). وَالعِصْمَةُ مِنْ فِتْنَةِ المالِ يا عِبادَ اللهِ هِيَ: أَنْ تَلْزَمَ شَرْعَ اللهِ فيما أَعْطاكَ مِنَ المالِ في اكْتِسابِهِ وَفي صَرْفِهِ وفي إِمْساكِهِ, وَيُعينُكَ عَلَىَ ذَلِكَ أَنْ تَفْهَمَ حَقيِقَةَ الدُّنْيا وَأَنَّها دَارُ عُبوُرٍ لَيْسَتْ دارَ قَرارٍ, ما في يَدِكَ مِنَ المالِ إِنَّما أَنْتَ مُْختَبٌَر مُبْتَلَىَ فِيِهِ يَنْظُرُ اللهُ تَعالَى فِيِهِ صِدْقَكَ وَإيمانَكَ وَمُراقَبَتَكَ وَخَوْفَكَ وَخَشْيَتَكَ, ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَصيُرِ المالُ إِلَىَ غَيْرِكَ؛ فاتَّقِ اللهَ فيما أَعْطاكَ وَاحْذَرْ أَنْ تَكوُنَ في شَيْءِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهُ عَلَيْكَ, في البُخارِيُّ مِنْ حَديثِ أَبي سَعيِدٍ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ هذا المالَ حُلوةٌ»َأخْرَجَهُ البخاري ح(6427) حُلْوٌ في طَعْمِهِ، جَذَّابٌ في مَنْظَرِهِ تَتوُقُ إِلَيْهِ النُّفوُسُ. ثُمَّ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَن أخَذَهُ بحَقِّهِ، ووَضَعَهُ في حَقِّهِ، فَنِعْمَ المَعُونَةُ» هذا شَرْطُ كَوْنِ المالِ نِعْمَةً تَرْتَفِعُ بِها دَرَجَتُكَ عِنْدَ رَبِّكَ مِنْ أَخْذِهِ بِحَقِّهِ وَبِذَلِكَ يَسْلَمُ مِنْ كُلِّ كَسْبٍ حَرامٍ وَوَضْعِهِ في حَقِّهِ بِذلَكَ يَكوُنُ قَدْ أَمْسَكَهُ وَصَرَفَهُ عَلَىَ الوَجْهِ الَّذي يَرْضَىَ اللهُ تَعَالىَ بِهِ فَنِعْمَ المعوُنُةُ عَلَىَ ماذا؟ عَلَىَ بُلوُغِ الغايَةِ وَالوُصوُلِ إِلَىَ مَرْضاةِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- فَنِعْمَ المالُ الصَّالحُ لِلعَبْدِ الصَّالحِ.وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ: بِرِبًا, أَوْ بِتَدْليِسٍ, أَوْ بِغِشٍّ, أَوْ بِاخْتِلاسٍ, أَوْ بِإِخْلالٍ بِعَقْدٍ, أَوْ بِعَدَمِ قِيامٍ بِمُهِمَّةٍ أُنيِطَ بِها عَطاءٌ مالِيٌّ, أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَسْبابِ, وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كانَ كالَّذي يَأْكُلْ وَلا يَشْبَعْ تُصيبُهُ تُخْمَةُ وَيَثْقُلُ بَدَنُهُ وَيَتْعَبُ في كَسْبِ ما يَأْكُلُهُ لَكِنَّهُ لا يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَلْ هُوَ عِبْءٌ عَلَيْهِ لَيْسَ فَقَطْ في كَسْبِهِ وَجَمْعِهِ بَلْ في ما يَدْخُلُ بَدَنَهُ مِنْ ذَلِكَ المالِ الحرامِ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنه لايَرْبُو لحمٌ نَبَت من سُّحْتٍ» أَيْ مِنْ الحرامِ«إلاَّ كانَتِ النَّارُ أَوْلَىَ به»أخرجه الترمذي ح(614), وقال: حسن.
أَيَّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ التَّنافُسَ المهْلِكَ في كَسْبِ الأَمْوالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَبَذْلِهِ في غَيْرِ موْضِعِهِ مِنْ أَعْظَمِ وَأَخْطَرِ الِجناياتِ الَّتِي يَجْنيِها الإِنْسانُ عَلَىَ نَفْسِهِ لاسِيِّما في الِجنايَةِ عَلَىَ المالِ العامِّ.
والمالُ العامُّ: هوَ كلُّ مالٍ تملكهُ الدولةُ ومؤسساتهُا سواءُ كانَ المالُ نقدًا أو عقارًا أو منقولًا أو منفعَةً, فكلُّ ذلكَ مما تَجبُ صيانتهُ, وإنَّ منَ التنافسِ المهلكِ بيْنَ كَثيرٍ مِنَ الناسِ الاستكثارَ من أخذِ المالِ العامِّ على وجهٍ لا يحلُّ سواءٌ كانَ نقدًا أو متاعًا أو أجهزةِ أوْ مراكبَ أوْ مساكنَ أوْ غَيرِ ذلكَ؛ فالجنايةُ علىَ المالِ العامِّ ـ مالِ الدولةِ المالِ الذي يملكهُ عمومُ المسلمينَ ـ منْ الجناياتِ العظيمةِ, والتعدي عليهِ من كبائرِ الذنوبِ قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾آل عمران: 161 والغلول هو: أخذ شيء من مال عام كان في الغزو أو كان في غيرِ ذلكَ منَ المصالحِ والمناسباتِ ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾آل عمران: 161 لا فَرقَ في ذلكَ بينَ قليلِ المالِ وكثيرِه.وقد أخبرَ النبيُّ –صلىَّ اللهُ عليهِ وسلَّمَ- عنْ رجلٍ رآهُ في النارِ في شملةٍ أخذها منَ الغنيمةِ دونَ علمِ وليِّ الأمرِ وهوَ النبيُّ –صلىَّ اللهُ عليهِ وسلَّمَ- في تلكَ الحالِ. أخرجه البخاري ح(6707) ومسلم(115).
أيها المؤمنونَ, القليلُ والكثيرُ منَ المالِ العامِّ خطيرٌ على دينِ الإنسانِ, وانتهاكهُ أمرٌ يوجبُ لهُ العقوبةَ في الدَّنيا والآخرةِ؛ جاء في صحيحِ الإمامِ مسلمح(1833)من حديثِ عديِّ الكنديِّ رضيَ الله تعالَىَ عنهُ قال سمعتُ رسولَ اللهِ –صلىَّ اللهُ عليهِ وسلمَ- يقولُ: «مَنِ استَعمَلْناه منكم على عملٍ» يَعني من طلبنا منهُ عملًا سواءٌ كانَ عملًا وَظيفيًا مُسْثَتْمَرًا أوْ كانَ عملًا عارِضًا تَكليفيًا «مَنِ استَعمَلْناه منكم على عملٍ فكتَمَنا مِخيَطًا» وهي: الإبرة التي يخاط بها «فَما فَوْقَهُ كانَ غُلُولًا يَأْتي به يَومَ القِيامَةِ» أي: يأتي به يوم القيامة يُشْهَر به بينَ الناسِ وَيُعاقبُ عليهِ, وهذا يدلُّ علىَ أنَّ ذلكَ منْ كبائرِ الذنوبَ, فالغلولُ: كلُّ مالٍ أُخِذَ منَ المالِ العامِّ بغيرِ حقٍّ, كانَ ذلكَ منْ صاحبِ الولايةِ مباشرةً أو كانَ ذلكَ منَ المستفيدينَ منْ هذهِ المرافقِ والوسائلِ الَّتي فيها إيصالُ المالِ العامِّ للناسِ لا فرقَ في ذلكَ بين قليلٍ وكثيرٍ, وإنَّ منَ الناسَ منْ لا يُقيمُ للمالِ ـ مالُ الدولةِ ـ وزنًا, لا في المرافقِ العامَّةِ, ولا فيما تصرفهُ الدولةُ من الأموالِ, ولا في العقودِ التي بين الدولةِ وبينَ الناسِ, كانَ ذلك في العقودِ الوظيفيةِ أو كانَ ذلكَ في المشاريعِ أوْ كانَ ذلكَ مما تَتعاقَدُ بهِ الدولةُ معَ عمومِ الناسِ أوْ معَ الشركات والمؤسسات. فاتَّقوُا الله عبادَ الله؛ الأمرُ خطيرٌ منَ استعْملناهُ منكمْ علىَ عملٍ يعني لوْ أَخَذْتَ لك مَثلاً وظيفةً أوْ أخذْتَ لكَ مشروُعا منَ الدولةِ فكتمتَ مخيطًا إبرةً سُئلتَ عنها يومَ القيامةِ فما فوقهُ كانَ غلولاً يأتي به يوم القيامةِ وقدْ سماهُ النبيُّ –صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- غُلولاً؛ لأَنَّهُ يَغُلُّ يدَ صاحِبِهِ كالأسيرِ الذي يُغَلُّ بالحديدِ, فاتَّقوُا اللهَ عبادَ اللهِ, وطهِّروا مَكاسبَكُمْ, واعلموُا أنَّ القليلَ المباحَ يجعلُ اللهُ فيهِ من البركةِ والخيرِ ما لا يدركهُ الإنسانُ بالكثيرِ الحرامِ ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾البقرة: 276.الَّلهمَّ أغننا بحلالكَ عن حرامِكَ وبفضلِكَ عمَّنْ سواكَ، طهِّرْ قلوبَنا مِنَ الشِّرْكِ والنِّفاقِ وسيِّءِ الأخلاقِ، وطهِّرْنا منَ المالِ الحرامِ في السرِّ والعلنِ وأَعنَّا علىَ طاعتِكِ واغفرْ لنا الخطأَ والزللَ, أقوُل هذا القولَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكمْ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, يرزق من يشاء بغير حساب, له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه المآب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, اتقوا الله تعالى الذي إليه المرجع والمآب وعليه –جل وعلا- الثواب والعقاب, يُحصي على الإنسان ما هو أقل من مثقال الذرة كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾الزلزلة: 7- 8 ولا يظلم الإنسان شيئًا من الخير وما يكون من شر فإنه سيجده مكتوبًا ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾القمر:53,﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾النساء:40.
أيها المؤمنون عباد الله, إن للمال الخاص والعام حرمة ومكانة، فلا يحل منه إلا ما أحل الله تعالى وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا يحلّ مالُ امرئ مسلمٍ إلا بطيبِ نَفْسٍ منهُ»أخرجه: البيهقي في سننه الكبرى ح(11545) بسند صحيحهذا في مال الفرد؛ فمال الجماعة أعظم خطرًا وأكبر قدرًا ومن حلف على يمين صبر كاذبًا متعمدًا يقتطع به مال أخيه المسلم لقي الله وهوعليه غضبان, فاتقوا الله عباد الله.
أيها المؤمنون, إن أكل المال العام بالباطل يشمل كل الصور التي يُؤخذ فيها المال, يدخل فيه مال الدولة ومال مؤسساتها بغير حق: سرقة في تحصيله, وغشًا في اكتسابه, واحتيال في اقتنائه من غير وجه حق, وخيانة للأمانة, ورشوة, واختلاسًا, وكذلك يدخل في أكل المال بالباطل: عدم إتقان العمل بأن لا يقوم الموظف بما أُوكل إليه من العمل, وكذلك الخلل والتقصير في تنفيذ المشاريع التي تتعاقد الدولة فيها مع المؤسسات بأن يخل بذلك على وجه غير متفق عليه من إضاعة الوقت أو استعمال مواد رخيصة أو خطأ في الإنجاز أو غير ذلك من الوسائل كل ذلك من أوجه خيانة المال العام واكتسابه بغير حق.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على ما اؤتمنتم به من الأمانات قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾النساء: 58 فاحذروا التخوض في المال العام بالباطل فإنه مشمول فيما جاء به قوله –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَومَ القِيامَةِ»أخرجه البخاري(3118) قال ابن حجر: أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطلالفتح(6/219) فاتقوا الله عباد الله, اتقوا الله تعالى في الدقيق والجليل من الأموال وتعاونوا على البر والتقوى، ومن علم منكم شيئًا من الخلل أو الخيانة أو الرشوة أو غير ذلك مما يكون إخلالًا وانتهاكًا للمال العام أو المال الخاص: فليبادر إلى إبراء ذمته بالنصيحة لولاة الأمر ولعامة المسلمين, بتبليغ الجهات ذات الاختصاص؛ فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى، وإياكم والتساهل والتهاون في هذه الأمور؛ فإنه إذا شاع الفساد في المال بين الناس خربت دنياهم وخَربَت آخرتهم, ودخلت عليهم من المكاسب المحرمة ما يعيقهم عن مصالح كثيرة.
اللهم طيِّب كسبنا, ويسر أمرنا, واشرح صدرنا, وقنا شر أنفسنا, وأعذنا من المال الحرام دقيقه وجليله، ظاهره وباطنه يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى خذ بناصيته إلى البر والتقوى، سدده في القول والعمل يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما فيه خير العباد والبلاد، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في كل مكان إلى صلاح العباد وخير البلاد يا ذا الجلال والإكرام، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم من أرادنا وأراد المسلمين بشر فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره واكفِ المسلمين شرهُ، اللهم اجمع كلمتنا على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام أرنا الحق حقًا وارزقْنا اتباعهُ وأرنا الباطلَ باطلاً وارزُقْنا اجتنابهُ يا ذا الجلال والإكرامِ، اللهم آمنا في أوطاننا يا ذا الجلال والإكرام، احفظ علينا أمننا، احفظ علينا نِعَمَكَ التي تتْرىَ يا ذا الجلال والإكرامِ، وارزقْنا شكرها سِرًا وعَلنًا، ظاهرًا وباطنًا يا حي يا قيوم، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.