قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في باب الاقتصاد في الطاعة:
عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». رواه البخاري ((39).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
كيف يتحقق اليسر:
هذا الحديث الشريف حديث أبي هريرة أوله قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه: «إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ» بعد أن قرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه القاعدة الكبرى والأصل الأصيل في تشريع رب العالمين في هذا الدين القويم دين الإسلام بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمات الطريق بالتفصيل كيف يحقق الإنسان نيل ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من وصف هذا الدين باليسر.
كل ما فرضه الله من الواجبات يسرٌ لا مشقة فيه يعجز عنها الإنسان:
وكل ما ندب إليه من النوافل والتطوعات وصنوف القربات يسرٌ إذا سار فيه الإنسان على طريق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي بينه وأجمله في هذا الحديث حيث قال: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» سددوا أي اجتهدوا في إصابة السنة، إصابة ما أمركم الله ـ تعالى ـ به وما ندبكم إليه، فالسداد هو إصابة الهدف إلا أن إصابة الهدف قد يقصر عنها الإنسان، فإذا قصر عن إصابة الهدف فينبغي أن لا يبعد.
ولذلك قال: «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا»، والمقاربة هي أن يكون الإنسان قريبًا من الهدف، قريبًا من الغاية التي يسعى إليها، وألا يبعد فإن إبعاده يعظم انحرافه.
مراتب إصابة ما أمر الله عز وجل:
ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان مراتب إصابة ما أمر الله تعالى به والقيام بما شرع، الإنسان في ذلك على مرتبتين:
1-المرتبة الأولى: الإصابة وهو الإتيان بما شرع الله ـ عز وجل ـ وفرض في الواجبات وفي النوافل والمستحبات.
2-المرتبة الثانية: أن يقارب الإنسان، قد يقصر لكنه لا يبعد أن يقارب الإنسان ويبذل جهده في إصابة والمقاربة للإصابة، فإذا حقق ذلك فله البشرى قال: «وَأبْشِرُوا» فالبشارة هي وعدٌ بإدراك عظيم الأجر وكبير الثواب وسعادة الدنيا وفوز الآخرة والحياة الطيبة وحسن الجزاء من رب العالمين.
أملوا الخير واستبشروا:
ولذلك قال: «وَأبْشِرُوا» أي أبشروا بما تؤملون من عملكم الذي تقومون به من الطاعة في الفرائض والواجبات ومن المسابقة في صنوف المستحبات والمندوبات، ثم قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» هذا توجيه نبوي مختصره أن يبادر الإنسان العمل الصالح وقت تيسره وتمكنه ونشاط نفسه له، هذا معنى قوله: «وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ».
إذا وجدت من نفسك نشاطًا للطاعة فلا تفوته:
أقبل على ما يسر الله من الطاعة، فإن ذلك عونٌ لك في الوصول إلى الغاية والهدف بتحقيق ما ذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التسديد والمقاربة، ولهذا ذكر ثلاثة أوقات الغالب في هذه الأوقات هو وجود الفراغ مع النشاط، الفراغ في الوقت من الأشغال والأعمال المشغلة والنشاط وإقبال النفس على العمل في هذه الأوقات، الغدوة هي أول النهار والروحة هي آخره، والدلجة قيل هي سير الليل وقيل هي سير آخر الليل.
وسبحان الله العظيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل سير الإنسان إلى ما يرجوه من رحمة الله ـ عز وجل ـ إلى الدار الآخرة بسير المسافر، المسافر يتحين الأوقات التي ينشط فيها ويكون فيها السير يسيرًا وهي أول النهار وآخره وسير الليل، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في السنن إذا سافرتم «عليْكم بالدُّلجةِ» ثم قال: «فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ»[رواية أبي داود (2571) من حديث أنس رضي الله عنه] أي يسهل السير وقطع المسافات في الليل أكثر منه في النهار.
سير القلوب نظير سير الأبدان: ولهذا كان سير القلوب إلى الله نظير سير الأبدان في قطع مسافات الدنيا في الأسفار، فسير القلوب إلى الله ينبغي أن يجد فيها الإنسان في هذه الأوقات لا سيما الدلجة وهي آخر الليل ففيها من الرحمات والهبات والعطايا والعون ما لا يدرك وصفه، ولا يدور في خيال الإنسان قدره، ولهذا من الحرمان أن يضيع الإنسان شيئًا من الليل في الوقوف بين يدي الرحمن جل في علاهن أن يضيع الليل في يعدم القيام بين يدي الرحمن ولو بالشيء اليسير.
عليكم بالغدوة والروحة: فعليكم كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالغدوة والروحة أوقات النشاط والدلجة وهي آخر الليل وقت فراغ القلب ثم في الحديث الآخر قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ» ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان الاعتناء بالتدرج في الوصول إلى الغاية وأن لا يكلف الإنسان نفسه فوق ما تطيق «وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» معنى القصد القصد يعني الزموا القصد، لا تحملوا أنفسكم ما لا تطيقون، ولا تحملوها ما ينقطع به سيركم عن الله عز وجل، فقليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع.
معنى القليل الدائم:
لكن لا يعني القليل الدائم أن يفرط في الواجبات، القليل المقصود به في النوافل والمستحبات، أما الفرائض فهي خطٌ أحمر متى تركها الإنسان فقد خرج عن الطريق المستقيم، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً» علو وارتفاع ونشاط وقوة، «وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ» ضعف وقصور، «فمنْ كان فترتُهُ» يعني وقت نقصه وكسله وتركه للعمل «فمنْ كان فترتُهُ إلى سنتي» يعني لزم ما فرض عليه من الفرائض والواجبات «فقدِ اهتدى»[مسند أحمد (6958) من حديث عبد الله بن عمرو، والترمذي من حديث أبي هريرة (2453) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه].
اللهم اهدنا فيمن هديت، اسلك بنا سبيل الطاعة والإحسان، وفقنا إلى ما تحب وترضى من الأعمال، أعنا على ما يقربنا إليك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.