نقل الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين في باب الاقتصاد في الطاعة:
حديث أَبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَوَاتِ، فَكَانتْ صَلاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا. رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
رؤية الصحابة لأبرز أعمال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
هذا الحديث حديث جابر بن سمرة ـ رضي الله تعالى ـ عنه بين هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاته وفي خطبته، والصلاة والخطبة هما أظهر الأعمال التي كان يراها أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانوا يشهدون معه الصلاة ويحفظون ما يكون من شأنه فيها من قيامٍ وقعود وحركةٍ وسكون على نحوٍ نقل فيه دقيق عمله وخفايا صنعه في صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إنهم نقلوا أنه كانت تضطرب لحيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة السرية فعلموا بذلك قراءته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في صلاة الظهر والعصر.
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حثهم على التأسي به في الصلاة على وجه الخصوص فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي»[صحيح البخاري (631)]
وصلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه على نوعين:
1-صلاة مفروضة.
2-صلاة متطوعٌ بها، صلاةٌ دائمة وصلاةٌ عارضة.
أما المفروضات فهي الخمس المكتوبات، وكان فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نحوٍ من القصد في قراءته وفي قيامه وقعوده وأذكاره فيها يبينه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ» صحيح مسلم (467) فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخفف إلا أن تخفيفه في تمام، بمعنى أنه تخفيفه لم يكن يخل فيه بشيء من حقوق هذه الصلاة وما يندب فيها من كمالٍ في قراءتها وفي أذكارها وفي قيامها وقعودها.
التخفيف ليس تركا للهدي النبوي:
ولهذا لا يفهم القصد هنا ولا التخفيف المأمور به في حديث أبي هريرة بأنه نزولٌ عما كان عليه عمله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل أكمل الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد حفظ عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يقرأه في صلواته في الجهري منها وفي السري تقديرًا، وقدروا أيضًا ما كان يقوله من تسبيح في ركوعه وسجوده فأحرزوا ذلك وأحصوه بعددٍ تقريبي تقديري.
بيان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، وحرصهم على اتباعه:
كل ذلك يبين ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البيان لأصحابه في هذه الصلاة وحرصهم على اقتفاء أثره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن صلاته كانت قصدًا، ومع هذا الهدي العام لصلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه كان في بعض الأحيان يعرض لهم ما يكون موجبًا للتقصير، كان يسمع بكاء الطفل فيخفف من الصلاة رأفةً به وبأمه التي تسمع صياحه وهي في صلاتها فلا تتمكن من تلبية حاجته.
كما أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطال الصلاة في بعض الأحيان طولاً خارجًا عن المعتاد فقد قرأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، وهي سورةٌ طويلةٌ جدًا تعد من طوال السور، ومع ذلك قرأ بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأعراف وأصحابه من وراءه، وهذا في الفرائض، وقرأ بسورة الطور في المغرب وهذا خلاف ما كان عليه الهدي الغالب من صلاته أنه كان يقرأ من قصار السور.
وأما الصلاة المتنفل بها فإنه تنفل بأصحابه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ونوع فأطال الصلاة أحيانًا واقتصر على بعضها أحيانًا ففي قيام الليل صلى بهم ثلث الليل وشطر الليل وصلى بهم الليل كله حتى خشوا أن لا يدركوا السحور، هذا هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النافلة، والنافلة تختلف عن الفريضة إذ أن النافلة للإنسان فيها الخيار، ويمكن لمن تكلف قيامًا أن يقعد فصلاة القاعد على نصف صلاة القائم.
وصلى بهم صلاةً عارضة، وهذا النوع الثالث من الصلوات التي صلى بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه صلاةً عارضة وهي صلاة الكسوف، فقد كسفت الشمس في زمانه، وقدر طول صلاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربع ساعات وهذا طويل بالنظر إلى هديه العام في صلاته، لكن هذه الصلاة لها سبب وهي الكسوف وهو مشروعٌ ما دام الكسوف قائمًا، ومدة كسوف الشمس في زمانه صلى الله عليه وسلم بلغت هذا الحد كما يقول بعض المقدرين من الحسابين.
تنويع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاته للبيان:
والمقصود أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نوع في الصلاة إلا أنه كان في كل ذلك كان قصدًا أي متوسطًا لا طول فيه ولا قصر ولا تكليف ولا إفراط ولا تفريط ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكذلك خطبته هكذا كانت ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يعني هذا أن لا يطيل فيما تقتضي الحاجة الإطالة فيه، لكن الغالب من هديه القصر والاعتدال في الخطبة.
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما جاء في الصحيح «إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ و قِصَرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهِه»[صحيح مسلم (869)] أي دليل على فقهه، لماذا؟
لأنه أقلَّ التذكير وأطال في القيام بين يدي رب العالمين، فكان ذلك من دلائل فقهه إذ اختصر في القول وأطال في العمل، والشأن كل الشأن في العمل، فنحن بحاجة إلى أن نكون عاملين أكثر منا أن نكون قوالين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.