إّنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرِ أَنْفُسِنا, وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا, مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلُّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ شَهادَةً تُنَجِّيِ قائِلَها مِنْ النَّارِ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَخْيارِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ, والْزَموُا ما فِيِهِ صَلاحُ دِينِكُمْ وَدُنْياَكُمْ؛ فَبِالتَّقْوَىَ تَعْمُرُ البُلْدانُ, وبِالتَّقْوَىَ تَصْلُحُ الأَحْوالُ, وَبِالتَّقْوَىَ يَنالُ العَبْدُ كُلُّ فَوْزٍ وَمَسَرَّةٍ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق: 2- 3 ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾الطلاق: 5 ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق: 4.
الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
أَيَّها المؤْمنوُنَ, عِبادَ اللهِ, بَعَثَ اللهُ محُمَّدًا –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيُتِمَّ صالحَ الأَخْلاقِ, بَعَثَهُ رَحْمَةً للعالمينَ فَكانَ دَاعِيًا إِلىَ كُلِّ فَضيِلَةٍ وَبِرٍّ وَإِلَىَ كُلِ إِحْسانٍ وَخَيْرٍ تَصْلُحُ بِهِ صِلَةُ العَبْدِ بِرَبِّهِ وَتَصْلُحُ بِهِ صِلَةُ الإِنْسانِ بِالخَلْقِ, فَلا أَصْلَحَ وَلا أَكْمَلَ وَلا أَتَمَّ وَلا أَنْعَمَ مِنَ العَمَلِ بما جاءَ بِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ؛ فَهُوَ الرَّحْمَةُ المهْداةُ دَلَّنا عَلَىَ كُلِّ خَيْرٍ وَحَذَّرَنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَمَرَنا بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَنهانا عَنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ وَرَذيلَةٍ، فالْزَموُا أَمْرَهُ وَخذوُا بِسُنَّتِهِ وَأَقْبِلوُا عَلَىَ ما جاءَ بِهِ؛ فَفِيِهِ الهُدَىَ وَالنُّوُرُ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾الشورى: 52 الَّلهُمَّ أَلْزِمْنا هَدْيَهُ واتِّباعَ آثارِهِ وارْزُقْنا العَمَلَ بِسُنَّتِهِ ظاهِرًا وَباطِناً يا رَبَّ العالمينَ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, في الصَّحيحِ مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ قالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ «لا تَدخُلوا الجَنَّةَ حتّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتّى تَحابُّوا، أفلا أدُلُّكم على أمْرٍ إذا فعَلْتُموه تحابَبْتُم؛ أفشُوا السَّلامَ بينكم»مسلم(54) كَلِماتٌ موُجَزاتٌ مُخْتَصراتٌ عَلَيْهِنَّ مِنْ النُّوُرِ وَالهُدَىَ وَالدِّلالَةِ عَلَىَ كُلِّ بِرًّ وَصَلاحٍ وَتُقَىً ما يَعْجَزُ عَنْهُ الفُصَحاءُ البُلَغاءُ.
رَسوُلُ اللهِ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لا دُخوُلَ لِلجَنَّةِ وَهِيَ دارُ النَّعيمِ الكامِلِ الَّتي أَعَدَّ اللهُ تَعالَىَ فيها لِعِبادِهِ الصَّالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَىَ قَلْبِ بَشَرٍ إِلَّا بِالإيمانِ، الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّهِ يَنْعَطِفُ إِلَىَ ذَلِكَ اسْتِقامَةِ الجوارحِ وَالِّلسانِ عَلَىَ شَرْعِ الحكيمِ الرَّحْمنِ قِيامًا بما أَمَرَ وَتَركًا عَمَّا نَهَىَ عَنْهُ وَزَجَرَ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الإيمانُ.
إِلَّا أَنْ خَصْلَةً مِنْ الخِصالِ هِيَ أَصْلٌ في تَحْقيقِ جَميعِ خِصالِ الإيمانِ: وَهِيَ سلامةُ القَلْبِ مِنَ الأَحْقادِ وَالغِلِّ وَالحَسَدِ وَسائِرِ الآفاتِ«ولا تؤمنوا حتى تحابوا» هَكَذا يُبَيِّنُ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ لا قَرارَ لِلإِيمانِ في قلوُبِ الخلَقِ عَلَىَ وَجْهٍ يَحْصُلُ لهُمْ بِهِ النَّجاةُ إِلَّا بِالتَّحابِّ، وَالتَّحابُّ هُوَ: أَنْ يُحِبَّ الواحِدُ مِنَّا لِأَخيِهِ كُلَّ خَيْرٍ, وَأَنْ يَسْعَىَ لَهُ بِكُلِّ بِرٍّ فَأَدْنَىَ ما يَكوُنُ مِنَ الحُبِّ الَّذي يَنْبَغي أَنْ يُشيِعَ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ سَلامةَ القلوُبِ وَالصُّدوُرِ «لا يؤْمِنُ أحَدُكم حتى يُحِبَّ للناسِ ما يُحِبُّ لنفْسِه». البخاري(13), ومسلم(45)فَتُحِبُّ لِغَيْرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَبِذلِكَ تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الخَصْلةُ الَّتي بها يَتَحَقَّقُ كمالُ الإيمانِ؛ لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ سَعَىَ لَهُ بِكُلِّ بِرٍّ وَكَفَّ عَنْهُ كُلَّ شَرٍّ وَتَحَقَّقَ لَهُ بِذَلِكَ السَّلامةُ في ديِنِهِ فَلا يَصِلُ إِلَىَ غَيْرِهِ بِسوُءٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ أَذَىً وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمامِ الإيمانِ «أفلا أدُلُّكم على أمْرٍ إذا فعَلْتُموه تحابَبْتُم»مسلم(54) خَصْلَةٌ تُؤكَّدُ هذا المَعْنَىَ في القُلوُبِ وَتُقيِمُهُ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ «أفشوا السلام بينكم.«
َهكذا يُبَيِّنُ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَصْلَةً مِنْ خِصالِ الإِيمانِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَةِ أَهْلِ الإِسْلامِ بها يَتَحَقَّقُ الوُدُّ بَيْنَهُمْ بها يَتَحَقَّقُ كُلُّ صَلاحٍ في أَحْوالهِمْ وَصلاتِهِمْ وَأَعْمالهِمْ «أفشوا السلام بينكم»، والسلام المأمور بإفشائه ليس فقط تحية تُلقى بَلْ إِنَّهُ تَحِيَّةُ وَمُعامَلُةٌ، فالسَّلامُ المأْموُرُ بِهِ في هذا الحَديثِ لَيْسَ قَوْلًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَىَ, إِنَّ التَّحِيَّةَ الَّتي تَكوُنُ بَيْنَ النَّاسِ اعْتَنَىَ بِها رَبُّ العالمَينَ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فَكانَ أَنْ عَلَّمَها آَدمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في أَوَّلِ خَلْقِهِ كما جِاءَ في الصَّحيحِ أَنَّ اللهَ تَعالَىَ لماَّ خَلَقَ آدَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ نَفَرًا مِنَ الملائِكَةِ جُلوُسًا فَقالَ لَهُ: «اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم فقل:السلام عليكم» هَكَذا يُعَلِّمُ اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- آدمَ إِلْقاءَ التَّحِيَّةِ عَلَىَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الأَجْناَسِ.
فَجاءَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَىَ هَؤُلاءِ الجَمْعِ مِنَ الملائِكَةِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كما أَمَرَهُ اللهُ –عَزَّ َوجَلَّ- فَقَالَ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَرَدَّتْ الملائِكَةُ عَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ فَزادوُهُ رَحْمَةَ اللهِ فَكانَ ذَلِكَ تَحِيَّةً لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ» هَكَذا قالَ اللهُ لِآدَمَ :«فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ».البخاري(3326), ومسلم(2841) ، فاللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- دَلَّ هذا المخْلوُقَ المُكَرَّمَ وَهُوَ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ إِلَىَ ما فِيِهِ سَلامَتُهُمْ فيما بَيْنَهُمْ, وَما فِيِهِ سَلامَتُهُمْ مَعَ سائِرِ خِلْقِ اللهِ مِنْ الأَجْناسِ وَالأَصْنافِ الَّتي خَلَقها ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ النَّبِيَّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَنَىَ بِإشاعَةِ السَّلامِ قَوْلًا وَعَمَلًا، فَكانَ أَوَّلُ قُدوُمِهِ إِلَىَ المدِينَةِ لَقِيَهُ أَصْحابُهُ مُسْتَبْشِريِنَ بِقدوُمِهِ وَكانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ لِلِقاءِ النَّبِيِّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالاطِّلاعِ عَلَىَ حالِهِ عَبْدُ اللهِ بنُ سَلامٍ وَهُوَ مِنَ اليَهوُدِ وَعُلَمائِهِمْ وَأَحْبارِهِمْ لمْ يَكُنْ عَلَىَ دينِ الإِسْلامِ لَكِنَّهُ بَلَغَهُ خَبَرُ سَيِّدِ الأَنامِ فَأَرادَ أَنْ يَتَحَقَّقَ مِنْ صِدْقِهِ فَخَرَجَ مَعَ مَنْ خَرَجَ لاسْتِقْبالِ النَّبِيِّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَرَىَ هذا الَّذي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قالَ «فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَاثْتَثْبَتُّهُ» أَيْ تَحَقَّقْتُ مِنْ شَأْنِهِ «رَأَيْتُ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ» يَقوُلُ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ :«فَكانَ أَوَّلُ ما قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَصْحابِهِ لما قَدِمَ المديِنَةَ أَيُّها النَّاسُ» خِطابٌ لِعُموُمِ أَهْلِ المدِيِنَةِ مِنْ المسْلِمينَ وَغَيْرِهِمْ «يا أيُّها النّاسُ أفشوا السَّلامَ وأطعِموا الطَّعامَ وصِلوا الرحام وصَلُّوا باللَّيلِ والنّاسُ نيامٌ».الترمذي(2485), وقالَ: حَسَنٌ صحيحٌ. هذا هُوَ عُنْوانُ رِسالَتِهِ، هَذا مَعْنَىَ الرَّحْمَةِ الَّتي جاءَ بِها –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾الأنبياء: 107 إِنَّها رَحْمَةٌ في صِلَةِ العَبْدِ بِرَبِّهِ "وَصَلُّوُا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيامُ" إِصْلاحُ ما بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، إِصْلاحُ بَيْنَ الإِنْسانِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الخَلْقِ، "أَفْشُوُا السَّلامَ" لَيِّنُوُا القَلْبَ، "وَأَطْعِموُا الطَّعامَ" طِيِبُ الإِحْسانِ العِمِلِيِّ بِكفايَةِ أَهْلِ الحاجاتِ، وَإِيِصالِ الطَّعامِ إِلَىَ مَنْ يَحْتاجُهُ مِنَ النَّاسِ هذا الكَلامُ الَّذي قالَهُ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَدَّرَهُ بإِفْشاءِ السَّلامِ وَهُوَ إِشاعَتُهُ وَنَشْرُهُ وَبَذْلُهُ وَإِظْهارُهُ وَذَاكَ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ وَبَيْنَ مَنْ يَكوُنُ بَيْنَهُمْ مِمِّنْ يُسالمهُمْ فَكَما قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾النساء: 86 .
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:« يا رَسوُلَ اللهِ: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ»؟ يَسْأَلُهُ عَنْ أَفْضَلِ ما يَكوُنُ مِنْ خِصالِ أَهْلِ الِإسْلامِ فَقالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: في بَيانِ خَيْرِ الإِسْلامِ وَأَفْضَلِ خِصالِهِ قالَ:« تُطعم الطعام وتَقْرأ السلام» أَيْ تَبْذُلُهُ «عَلَىَ مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَىَ مَنْ لَمْ تَعْرِفْ»البخاري(12), ومسلم(39) إِنَّ الإِسْلامَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ الَّتي بِها يُشيِعُ الإنْسانُ السَّلامَ عَلَىَ كُلِّ مَنْ حَوْلَهُ فالسَّلامُ لَيْسَتْ كَلِماتٍ تُلْقَىَ تَحِيَّةً فَقَطْ، بَلْ هِيَ إِعْلانُ بِالسَّلامَةِ وَالَأمانِ لِكُلِّ مَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جِنٍّ، بَلْ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، وَلِذَلِكَ كانَ مِنْ المشْروُعِ لِلإِنْسانِ إِذا دَخَلَ المقْبَرَةَ أَنْ يَقُوُلَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ. مِنْ ذَلِكَ ما جاءَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ح(249).
فالمؤْمِنُ سَلامٌ لِلأَحْياءِ، سَلامُ لِلأَمْواتِ، سَلامُ لِكُلِّ خَلْقِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- فَلا يَأْتِي مِنَ العَمَلِ إِلَّا ما يُرْضِيِ اللهَ –عَزَّّ وَجَلَّ- وَأَنْتُمْ في صَلَواتِكُمْ تَخْتِموُنَها بِالتَّسْليمِ عَلَىَ كُلِّ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ "التَّحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" بَدَأْتُمْ بِالسَّلامِ عَلَىَ أَحَقِّ مَنْ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ مِنَ الخَلْقِ وَهُوَ سَيِّدُ الوَرَىَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لِعَظيمِ مَكانَتِهِ وَكَبيرِ فَضْلِهِ عِلَىَ البَشَرَيَّةِ جَمْعاءَ، "السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّها النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وِبَركاتُهُ السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ"ما قَالَها قائِلٌ قَطُّ يَقوُلُ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ- «إِلاَّ أَصابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صالحٍ في السَّماءِ وَالأَرْضِ»البخاري(6230) مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَملائِكَةٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ خَلْقِ اللهِ الَّذينَ يَتَّصِفوُنَ بهذا الوَصْفِ السَّلامُ عَلَيْنا وَعَلَىَ عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ.
الَّلهُمَّ امْلأْ قلوُبَنا سَلامًا, وَأَخْلاقَنا وَأَعْمالَنا سَلامًا وَطُمَأْنيِنَةً, وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ أَقوُلُ هذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِروُهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفوُرُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيِهِ، حَمْدًا يُرْضيِهِ, وِأِشْهِدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ وَخُذوُا بِهَدْي النَّبِيِّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في دَقيقِ الأَمْرِ وَجَليِلِهِ وَاعْمَلوُا بِسُنَّتِهِ في السِّرِّ وَالعَلَنِ وَفي خاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ وَفيما بَيِنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ، وََفيما بَيْنَكَ وَبَيْنَ الخَلْقِ بِها تَسْعَدوُنَ؛ فَإِنَّ أَصْدَقَ الحديثِ كِتابُ اللِه وَخَيْرَ الَهدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صَلَّىَ اللُه عَلَيْهُ وَسَلَّمَ- وَشَرَّ الأُموُرِ مُحْدثاتُها وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, عِبادَ اللهِ: إِفْشاءُ السَّلامِ لَيْسَ كَلِمَةً فَقَطْ أَوْ جمُلْةً تُلْقَىَ بَِلا تَرَوٍّي وَمَعْرِفَةٍ لمعناها؛ إِنَّها شِعارُ يَتَضَمَّنُ القَوْلَ وَالعَمَلَ إِنَّها كَلماتٌ يَجْري بِها عَلَىَ الإِنْسانِ الأَجُرُ إِذا قالهَا وَتَكَلَّمَ بِها ؛فَقَدْ جاءَ في الصَّحيحِ أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ بَيْنَ أَصْحابِهِ فَجاءَ رَجُلٌ فقالَ:« السَّلامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ فَجَلَسَ الرَّجُلُ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرٌ ثُمَّ جاءَ آخُرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ فَقالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهُ عَشْروُنَ ثُمَّ جاءَ رَجُلُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ فَقالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ ثَلاثوُنَ».أخرجه أبو داود(5195)بإسناد جيد هَكذا هِيَ المنازِلُ فَكُلَّما زادَ الإِنسانُ في هذِهِ التَّحِيِّةِ مِنَ الكَلامِ الطَّيِّبِ الَّذي يَتَضَمَّنُ الدُّعاءَ وَالتَّأْمِيِنَ لمَنْ يُلْقيِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ فَأَوْفَىَ السَّلامِ وَأَكْمَلُهُ وَأَعْلاهُ مَنْزِلَةً وَأَجْرًا في القَوْلِ وَالتَّحِيَّةِ "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ" إِنَّكَ تَدْعوُ لَهُ بِالسَّلامَةِ مِنَ الآفاتِ وَأَنْ يُبَلِّغَهُ كُلَّ ما يُؤَمِّلُهُ مِنْ الرَّحماتِ وَأَنْ يُبارِكَ اللهَ لَهُ فيما حَصَلَ لَهُ مِنَ السَّلامَةِ وَفيما أَدْركَهُ مِنَ الفَضْلِ وَالإِحْسانِ.
كَلِماتٌ موُجَزاتٌ تُلْقَىَ عَلَىَ الإِنْسانِ فتُدْخِلَهُ في جُمْلةِ أَوْلِياءِ اللهِ وَأَحْبابِهِ هذا بِالنَّسْبَةِ لِلقائِلِ، وَأَمَّا بِالنَّسْبَةِ للمَقوُلِ لَهُ فَهِيَ عَهْدٌ لَهُ بِالأَمانِ وَالتَّسْليمِ.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ السَّلامَ المأْموُرَ بَهِ في قَوْلِهِ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفْشوُا السَّلامَ بَيْنَكُمْ» لا يَقْتَصِرُ عَلَىَ القَوْلِ بَلْ إِنَّهُ تَحِيَّةُ وَمُعامَلَةٌ فاحْرِصوُا عَلَىَ أَنْ تكوُنوُا سلامًا في مُعامَلَتِكُمْ لِلخَلْقِ فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «المسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لِسانِه ويَدِه».البخاري(10), ومسلم(40) وَهذا أَدْنَىَ ما يَكوُنُ مِنْ أَوْجُهِ السَّلامِ لِغَيْرِكَ أَنْتَ كُفَّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ، فَإِنَّ كَفَّ شَرِّكَ القَوَلِيَّ وَالعَمَلِيَّ وَالظَّاهِرِ وَالباطِنِ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَىَ نَفْسِكَ.
لِذلِكَ كُنْ عَلَىَ هَذِهِ الحالِ في أَقَلِّ دَرَجاتِ السَّلامَةِ وَالتَّسْليمِ، أَنْ تَكُفَّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فيَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ شَرِّ قَوْلِكَ، وَيَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ شَرِّ عَمَلِكَ، وَيَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ شَرِّ قَلْبِكَ فَلا حَسَدَ وَلا غِلَّ وَلا بَغْضاءَ وَلا ضَغيِنَةَ وَلا غِيبَةَ وَلا نَميمَةَ وَلا أَكْلَ لِلمالِ بالباطِلِ وَلا سَعْيْ بالِإضْرارِ، وَإِلْحاقِ الأَذَىَ بِالخَلْقِ، ذَلِكَ كُلُّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ –صَلَّىَ اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ-: «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لِسانِه ويَدِه»البخاري(10), ومسلم(41), فسلم الناس من لسانك، سلم الناس من بطش يدك ونقل قدمك، سلم الناس في معاملتك، سلم الناس مما يمكن أن يدور في قلبك من حسد أو حقد أو غل فذاك يبلغك مرتبة عالية.
فقد سُئل النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ :« قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»البخاري(11), ومسلم(43) فَسَلِمِ النَّاسَ مِنْ شَرِّكَ؛ تَكُنْ بِذَلِكَ سالماً مِنَ الإِثْمِ وَبالِغًا تَحْقيِقَ ما أَمَرَكَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ عَلَىَ لِسانِ رَسوُلِهِ مِنْ إِفْشاءِ السَّلامِ أَفْشوُا السَّلامَ بَيْنَكُمْ في صِلَتِكُمْ بِزوْجاتِكُمْ وفي صِلاتِكُمْ بِأَوْلادِكُمْ وَفي صِلاتِكُمْ بَوالِديِكُمْ وَفي صِلاتِكُمْ بِقَرابَتِكُمْ وَذَوي رَحِمِكُمْ وَفي صِلاتِكُمْ بجيرانِكُمْ وَفي صِلاتِكُمْ بِمَنْ يَتعامَلوُنَ مَعَكُمْ بِعقُوُدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كوُنوُا سَلامًا وَأَبْشِروُا بِالسَّلامَةِ مِنَ اللهِ؛ فَاللهُ هوَ السَّلامُ وَمَنْ سَلَّمَهُ اللهُ بَلَغَ كُلِّ بِرٍّ وَإِحْسانٍ.
الَّلهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمَنْكَ السَّلامُ تَبارَكَتَ يا ذا الجِلالِ وَالإِكْرامِ، سَلِّمْ غَيْرَكَ يُسَلَّمْكَ اللهُ، أَحْسِنْ إِلَىَ غَيْرِكَ يُحْسِنِ اللهُ إِلَيْكَ، فاللهُ لَكَ كما تكوُنُ لِلنَّاسِ.
الَّلهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا أَعِنَّا عَلَىَ ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اغْفِرْ لَنا الخَطَأَ وَالزَّلَلَ، خُذْ بِنواصِينا إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ مِنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتنا وَوُلاةَ أُموُرنِا وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ، رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوُبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ يا ذا الجَلالَ وَالإِكْرامِ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أَمْرِنا خادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّريِفَيْنِ وَوَليَّ عَهْدِهِ إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ خُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، اصْرِفْ عَنْهُمْ كُلَّ سوُءٍ وَشَرٍّ وَوَفِّقْهُمْ إلَىَ كُلٍّ خَيْرٍ وَبِرٍّ، اجْمَعْ بِهِمْ كَلِمَةَ المسْلمينَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمورِ المسْلمينَ حَيْثُ كانوُا إِلَىَ تَحْكيمِ كِتابِكَ وَالعَمَلِ بِسُنَّتِكَ وَاجْعَلْهُمْ رَحْمَةً لِعبادِكَ يا ربَّ العالمينَ، الَّلهُمَّ مَنْ أَرادَنا وَالمسْلمينَ بِشَرٍّ أَوْ فِتْنَةٍ أَوْ ضُرٍّ فا كْفِناهُ بما شِئْتَ يا عَزيزُ يا حَكيمُ، الَّلهُمَّ اكْفِنا كُلَّ ذي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِهِ، الَّلهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَليْنا، الَّلهُمَّ انْصُرْنا عَلَىَ مَنْ بَغَىَ عَلَيْنا، الَّلهُمَّ آثِرْنا وَلا تُؤْثِرْ عَليْنا، الَّلهُمَّ حَبِّبْ إِليْنا الصَّالحاتِ وَقِنا شَرِّ المنْكَراتِ وَارْزُقْنا حُبَّ المساكينِ نَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنا إِلَىَ حُبِّكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ, رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنا الَّذينَ سَبقوُنا بالإيمانِ ولا تَجْعَلْ في قُلوبِنا غِلاًّ لِلذينَ آمَنوُا رَبَّنا إِنَّكَ رؤوُفٌ رَحيمٌ, رَبَّنا آتِنا في الدُّنيْا حَسَنَةً وفي الآخرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عذابَ النَّارِ, الَّلهُمَّ صَلِّ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آلِ مُحمَّدٍ كما صَلَّيْتَ عَلَىَ إِبْراهيمَ وَعَلَىَ آلِ إِبْراهيمَ إِنَّكَ حميدٌ مَجيدٌ.