الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين: وعن أبي جُحَيْفَة وَهْب بنِ عبد اللهِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: آخَى النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ: مَا شَأنُكِ؟ قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فنام، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقًّا وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقًّا، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «صَدَقَ سَلْمَانُ». رواه البخاري.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
هذا الحديث في قصة هذين الصحابيين الجليلين فيما رواه أبو جحيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آخى بين سلمان وأبي الدرداء، والمؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار، ويجري بينهما من الصلة وثقة المودة ما يكون كل واحد منهما بمنزلة أخ الآخر من النسب في المعونة والنصرة والتكافل.
توجيه الصحابة بعضهم بعضا:
جاء سلمان إلى أبي الدرداء أخيه فوجد أم الدرداء متبذلة يعني على حالٍ من اللباس والهيئة ليس مما يكون عليه النساء في العادة، وهذا قبل أن يفرض الحجاب، فسألها "قَالَتْ: أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا" يعني لا ينظر إلى النساء ولا يعتني بما يتعلق بهذه الأمور يصوم النهار ويقوم الليل، فلما جاء أبو الدرداء وقد جاءه سلمان نهارًا وصنع له طعامًا فقال له: كل فقال: إني صائم، سلمان لأبي الدرداء كل بعد أن جلب له الطعام ضيافةً قال: إن صائم، قال: لا آكل حتى تأكل، فأفطر ـ رضي الله تعالى عنه ـ إكرامًا لضيفه وطعم معه، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء على عادته من أول الليل فقال له سلمان: نم، ثم قام فقال له: نم.
كل ذلك يقول له نم ليأخذ قسطًا من الراحة في نوم الليل، فلما جاء آخر الليل قاما، "قَالَ سَلْمَانُ: قُم الآن، فَصَلَّيَا جَمِيعًا" صليا أي صلى كل واحد منهما ما كتب الله له من صلاة الليل إما جماعةً وإما فرادى، فذهب أبو الدرداء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بما قال سلمان حيث قال: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقًّا، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" فالنفس لها حظ وحق ينبغي ألا تبخس، كذا الزوج، كذا الأهل.
لا يشتغل بزيادة الطاعات عن النظر في حل الأهل والولد:
وفي رواية: «وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» يعني لضيفك عليك حقًا، فلما جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبره بما قال سلمان قال: «صَدَقَ سَلْمَانُ» أي أقر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلمان على ما قال من أن ثمة حقوقًا ينبغي ألا يجحف بها اشتغالاً بالعبادة والطاعة، بل ينبغي أن يعطي الإنيان كل ذي حقٍ حقه، وهذا فيما لم يفرضه الله تعالى من الواجبات والفرائض فإنه لا يشتغل عن حق أهله وولده ونفسه بالطاعة حتى يجحف بها، بل يكون في ذلك على نحو ما كان عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم «أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي».
فهذا الحديث فيه عدة فوائد، من فوائده:
ما يكون بين الإخوان من المناصحة في الإقامة على الحق والتقويم للخطأ، وفيه جواز شكاية المرأة لمن يكون سببًا لإصلاح شأن زوجها وأن ذلك ليس من الغيبة، بل هو مما يتحقق به الصلح، وقد قال الله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[النساء:114].
وفيه: أن الضيف له من الحق بأن يلزم مضيفه بأن لا يطعم حتى يطعم معه، وأن إجابته إلى ذلك من إكرامه؛ ولذلك أفطر أبو الدرداء ـ رضي الله تعالى عنه ـ إكرامًا لضيفه.
وفيه من الفوائد: جواز الفطر في صيام النفل.
وكذلك فيه من الفوائد: أن الاقتصار على بعض الصلاة في الليل إذا كان ذلك به يحفظ حق نفسه وحق أهله هو هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي الليل كله بل صلى من كل الليل، صلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوله وأوسطه وآخره، وانتهى وتره ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السحر.
توثيق المعلومة بالسؤال:
وفيه: إذا أراد الإنسان أن يستثبت من معلومة ممن هو أعلم فإن ذلك مما يوثق هذه المعلومة، فأبو الدرداء سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مقولة سلمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ حيث سأله عن قوله:" وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقًّا، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ".
وفيه أن الصحابة يجتهدون فيما لم يبلغهم من الوحي مباشرةً فاجتهد سلمان واجتهد أبو الدرداء فكان اجتهاد سلمان أقرب إلى الصواب بإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: «صَدَقَ سَلْمَانُ».
ينبغي للإنسان أن يسوس نفسه: هذه بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث، والخلاصة أن الإنسان ينبغي له أن يسوس نفسه من العمل الصالح والطاعة بالقدر الذي يحقق به دوام العبادة دون انقطاع من غير زيادة ولا نقص ومن غير إفراط ولا تفريط، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.