يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: وعن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: وفي رواية :«أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة ؟» فقلت : بَلَى ، يَا رَسُول الله، وَلَمْ أُرِدْ بذلِكَ إلاَّ الخَيرَ، قَالَ : «فَصُمْ صَومَ نَبيِّ اللهِ دَاوُد، فَإنَّهُ كَانَ أعْبَدَ النَّاسِ، وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر. قُلْتُ: يَا نَبيَّ اللهِ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ: «فاقرأه في كل عشرين» قُلْتُ: يَا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلِكَ؟ قَالَ : «فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر» قُلْتُ : يَا نبي اللهِ إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ؟ قَالَ: «فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذلِكَ» فشدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقالَ لي النَّبيّ: «إنَّكَ لا تَدرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ» قَالَ : فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لي النَّبيُّ فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلتُ رُخْصَةَ نَبيِّ الله. وفي رواية :«وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً» .وفي رواية : «لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» ثلاثاً .
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فهذا الحديث حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله تعالى عنه ـ في مراجعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن الصوم والصلاة وفي هذه الرواية ذكر الصوم والقراءة، والقراءة بناءً على ما تقدم من الروايات الأخرى هي قراءته في الصلاة.
الاقتصاد في العمل:
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن عمرو: :«أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة ؟» ثم بين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الصوم وهو صيام داود ـ عليه السلام ـ يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأن ذلك أعلى ما يكون وقد ابتدأه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، حتى بلغ في الصوم أعلى مراتبه المشروعة وهي أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، بدأ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم صيام يوم وإفطار يومين ثم صيام يوم وإفطار يوم.
أما القراءة فالمقصود بها القراءة في الصلاة فيما يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ جمعًا بين الروايات، وكان ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد سأله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كيف تختم القرآن؟ فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ليلة يعني يختم القرآن كل ليلة، وهذا عمل عظيم وجليل وفيه من الجهد والمشقة والمعاناة ما يعجز عنه الإنسان على الدوام وإن كان قد يطيقه في بعض الأحيان؛ لكن ذلك على وجه الدوام غير ممكن لما يترتب عليه من تعطل مصالح الإنسان، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» وفي هذا الرواية قال: «وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً» فدوام هذا العمل لا يتمكن معه الإنسان أن يقوم بما يكون من الأعمال التي تلزمه تجاه ربه في جسده وعينه وأهله وولده ومن يطرأ عليه من زواره.
فلذلك وجهه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الاقتصاد، وعبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان شابًا نشطًا يرغب في الزيادة فبلغ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلى ما يكون مما يشرع فقال له: «وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر» وفي بعض الروايات: في أربعين «وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر» قُلْتُ : يَا نَبيَّ اللهِ ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ: «فاقرأه في كل عشرين» قُلْتُ : يَا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلِكَ ؟ قَالَ: «فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر» قُلْتُ: يَا نبي اللهِ، إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ: «فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذلِكَ».
وقد جاء النهي عن الزيادة على السبع في القراءة المستمرة الدائمة, وهنا يفهم ما جاء من النهي عن أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فإنه أدنى ما وصل من الحد في القراءة، في قراءة القرآن وختمه أن يقرأه في ثلاثة أيام كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود وحديث عبد الله بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ»سنن أبي داود (1390) وسنن الدارمي (1534) وذلك إذا كان على وجه الدوام في قول جماعة من أهل العلم، ومنهم من حمل ذلك على طول الزمان.
وأما من قال: هذا النهي إنما نهيٌ عن الدوام أي عن إدامة القراءة بختمة كل يوم في سائر الزمان، أما في أيام الفضل وأيام الطاعة وأيام النشاط كرمضان ونحوه، فإنه قد ورد عن جماعات من السلف أنهم يختمون في يوم، فهذا توجيهٌ وجمعٌ بين ما ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم من الختم في يوم وما جاء به النهي، والأولى والأكمل أن لا يزيد الإنسان عما وجه إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الختم في سبع، فإنه يجتمع له بذلك تلاوة القرآن مع فهمه.
فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» وهذا إشارة إلى أنه إذا قرأه في أقل من ثلاث لم تكن له عناية بالمعاني، والإدراك للمعاني يعظم به الأجر والثواب، ولهذا بعض الناس يقول: يفوت أجر التلاوة وكثرتها بالتدبر والتأمل والتأني فيقال: أكمل الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أمره الله ـ تعالى ـ بترتيل القرآن وتلاوته حق تلاوته وذلك بأن يقرأه متأملاً معانيه، فيكون المندوب للمسلم أن يقرأ القرآن في أربعين يومًا.
وقد كره الإمام أحمد أن يترك الإنسان القرآن تلاوةً في أكثر من أربعين يومًا، وهذا لمن كان يحفظه ثم شهر ثم عشرون يومًا هكذا بالتدريج ثم عشرة أيام ثم سبعة أيام هي أفضل ما يكون من القراءة وهي التي كان عليها جماعات من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ والسلف الصالح حيث يحزبون القرآن سبعة أحزاب يقرؤونه، فيجد المؤمن ويجتهد في طاعة الله عز وجل وتلاوة كتابه ويكون له بذلك الفقه في كلام الله عز وجل وكثرة التلاوة.
نسأل الله أن يستعملنا وإياكم في طاعته وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته وصلى الله وسلم على نبينا محمد.