قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه رياض الصالحين:
وعنِ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: بينما النَّبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب إِذَا هُوَ برجلٍ قائم فسأل عَنْهُ، فقالوا: أَبُو إسْرَائيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ في الشَّمْسِ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِل، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ». صحيح البخاري (6704).
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
هذا الحديث حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة هذا الرجل وهو أبو إسرائيل من الأنصار صحابيٌ عابد ـ رضي الله تعالى عنه ـ حصل منه ما جاء به الخبر من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطب, وهذا فيما يظهر أنه في المدينة في حال حضر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطب فرأى رجلاً قائمًا فسأل عنه لخروجه عن المعتاد المألوف من حال الناس في خطبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من القعود والجلوس بين يديه صلى الله عليه وسلم حال خطبته.
المشقة لا تُشرع بل ترد: فلما كان على هذه الحال المختلفة سأل عنه فقيل له: "نَذَرَ أَنْ يَقُومَ في الشَّمْسِ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِل، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ".
فذكر في نذره أربعة أمور: القيام، وعدم الاستظلال أن يكون في الشمس ضاحيًا غير مستظل، وأن لا يتكلم، وأن يصوم، وإذا نظرنا إلى هذا النذر الذي جرى من هذا الصحابي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رأينا أنه لم يقره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد نذر ما هو عبادة وهو الصوم ونذر ما هو عملٌ في بعض العبادات وهو القيام، فهو عبادة في الصلاة وعبادة في الوقوف بعرفة ونحو ذلك.
ونذر عدم الاستظلال وهذا ليس بعبادة، ونذر أن لا يتكلم وهذا أيضًا ليس بعبادة مطلقًا، إنما المأمور به أن لا يتكلم في ما ليس خيرًا، وأما الخير فإنه لا يسكت عنه، فالصمت ليس عبادة في ذاته إلا أن يكون مانعًا من الكلام الباطل، فلما كان النذر على هذه الحال من الإجمال وعدم الموافقة لهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ردَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ليس من هديه فقال: «مُرُوهُ» «وَلْيَقْعُدْ» لأن القيام في غير الصلاة ونحوها مما جاءت به الشريعة لا يتقرب به إلى الله عز وجل، «وَلْيَسْتَظِلَّ» لأن الظهور للشمس ليس مقصودًا لذاته وإنما يكون قد يكون ملازمًا لعبادة من العبادات كما لو كان في حجٍ مثلاً أو كان الإنسان صائمًا يمشي إلى المسجد فيتعرض للشمس يؤجر على ذلك؛ لكن أن يتعبد لله بالقيام وبعدم الاستظلال، فهذا ليس عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء:147].
لا يتعبد بالصمت: وأما الثالث من الأعمال, قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَلْيَتَكَلَّمْ» لأنه لا صمات في التعبد، فلا يتعبد لله بالصمت إلا أن يكون عبادةً من جهة إمساك الإنسان عن الشر وما ليس بخير من الكلام، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" صحيح البخاري (6018) فأمر بالقول ابتداءً ووصفه بالخير أن يقول خيرًا، فإن لم يكن منه هذا، فإن الصمت عند ذلك يكون عبادةً لا لذاته لكن لأنه يمسك به لسانه عن أن يتكلم بما لا يرضي الله عز وجل، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«أَوْ لِيَصْمُتْ» أي إذا لم يجد خيرًا يتكلم به، ولذلك قال: «فَلْيَتَكَلَّمْ».
وأما العبادة الرابعة والأمر الرابع الذي نذره فهو الصوم فقال: «وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» لأن الصوم عبادة.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:-
من فوائده: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلحظ حال أصحابه فيقوم ما يحتاج إلى تقويم ويستفسر عما يحتاج إلى استفسار، فلما رأى الرجل قائمًا في حالٍ لا يكون الناس فيها قيامًا سأل عنه، ولم يبادره بالسؤال إما لبعده أو لغير ذلك من الأسباب المهم أنه سأل عنه واستفسر قبل أن يتكلم ولعله بعيد؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوجه الخطاب إليه إنما قال: «مُرُوهُ».
وفيه أيضًا من الفوائد: أنه في زمن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ من كان يأتي بعبادةٍ ليست من عمله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيردُّ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقوم الخطأ ويصوب الخارج عن الصراط المستقيم، وذلك أن العبادة توقيفية فلا تكون إلا بأمره وشرعه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولهذا نهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما ليس بشرعه وأمره بإتمام الصوم الذي جاء به عبادةً لله وقربة.
نذر ما لا يشرع مردود:
وفيه من الفوائد: أن من نذر شيئًا من الأعمال غير مشروع فلا يلزمه الوفاء به، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أخبر أنه نذر ألا يتكلم وأن يقوم وما إلى ذلك قال: «مُرُوهُ، فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ» ولم يأمره بالكفارة، فأمره بعدم إنفاذ النذر لأنه لا ينعقد، ولم يأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالكفارة؛ لأنه نذرٌ غير منعقد إذ أنه لا يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ إلا بالطاعة وبما شرع الله ـ عز وجل ـ على لسان رسوله.
«مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ».
نذر الطاعة يجب الوفاء به:
من الفوائد في هذا الحديث: أن من نذر طاعة الله ولو كانت مخلوطة بغير طاعة فالواجب عليه أن يفي بالنذر؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الرجل أن يتم صومه لما كان ذلك طاعةً لله كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ «مَن نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، ومَن نَذَرَ أنْ يَعْصِيَهُ فلا يَعْصِهِ»صحيح البخاري (6696).
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ألزمنا هديه والعمل بسنته والقيام بشرعه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.