يقول المصنف رحمه الله تعالى: عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: قالَ لي رَسولُ اللَّهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ: «يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ!». متفقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
الاقتصاد في العبادة: هذا الحديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله، وعبد الله كان رجلاً عابدًا من علماء الصحابة المشتغلين بصالح العمل، فقد تقدم من حاله ـ رضي الله تعالى ـ عنه أن نازل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صومه حيث كان يصوم ولا يفطر ويقوم ولا ينام ـ رضي الله تعالى عنه ـ فبين له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الحديث ما ينبغي أن يكون عليه من الاعتدال والاقتصاد في العبادة وألا يشق على نفسه رضي الله تعالى عنه.
لا ينبغي للإنسان أن يشدد على نفسه ما يقطعه عن العبادة:
في هذا الحديث يقول: «قالَ لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ» هذا تحذير مما قد يؤول إليه الأمر في حال أن يشدد الإنسان على نفسه ويكثر من العمل الصالح الذي يشغله عن حقوقٍ أخرى أن يكون ذلك مفضيًا إلى الانقطاع، «لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قطع العمل الصالح وذلك أن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن كان قليلاً.
كان عمله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ديمة:
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عمله ديمة، ومعنى عمله ديمة أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا عمل عملاً أثبته ودام عليه ولم يقطعه، وذلك أن الإنسان إذا قطع العمل انقطع عنه الثواب والأجر، وهذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: « اكْلُفوا مِن الأعمالِ ما تُطيقونَ؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا»[صحيح البخاري (6465)، ومسلم (1103)] ذلك أن الإنسان إذا قطع العمل انقطع عنه الثواب لا سيما إذا كان الانقطاع عن غير مرضٍ ولا عجزٍ ولا هرم، أما إن كان عن مرض أو عجز أو هرم أو ضعف, فهذا فيه ما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح من حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ:«إذَا مَرِضَ العَبْدُ، أوْ سَافَرَ، كُتِبَ له مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»[صحيح البخاري (2996)] من فضل الله وعظيم إحسانه وجوده لكن أن يترك العمل مع قدرته عليه هنا ينقطع الثواب بانقطاع العمل.
ولهذا من المهم أن يكلف الإنسان أن يأخذ الإنسان من الأعمال الصالحة ما يمكن أن يدوم عليه, وأن يكون مستمرًا, وهذا في النوافل، وأما الفرائض فإنه لا يجوز لأحد أن يخل بها، والإخلال بها خطرٌ ونقصٌ في الدين، إنما الحديث في إدامة العمل وأن يكون من العمل الذي يديمه ما يطيقه هو فيما يتعلق بالعمل المتطوع به في النوافل من الصلوات والزكاة والحج والصوم والصدقة ونحو ذلك أن يأخذ من العمل ما يطيقه لأجل أن يدوم عليه.
الستر على المقصرين:
وقوله: «لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ» عبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ لم يسمه إما لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يسمه هذا احتمال يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ» مثل ما كان يقول: ما بال أقوام ولم يسمه، وإما أن يكون قد سماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكون قول عبد الله سترًا لهذا الرجل من تسمية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الفائدة حصلت بذكره وتنبيه عبد الله ـ رضي الله عنه ـ ولا حاجة إلى أن يذكر هذا للناس فيشتهر أمره بينهم بما لا فائدة فيه، عبد الله يعرف هذا الرجل أما نحن لو قال لنا فلان أو عبد الله أخبر بفلان والناس لا يعرفونه لم يكن في ذلك فائدة في ذكر اسمه.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ» مع أنه ترك عملاً متطوعًا به فيه التحذير من ترك العمل الصالح ولو كان نافلةً وأنه مما يعاب على الإنسان أن يشتغل بصالحٍ ثم يتركه ولو كان من التطوعات.
أحد مواطن جواز الغيبة:
ولكن أيضًا ينبغي أن يعلم أن هذا التحذير من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل ألا يقع عبد الله فيما وقع فيه الرجل وليس لأجل تنقص الرجل أو عيبه، فإن ذلك لا يصدر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما لأجل أن يحذر، وهذا من المواضع التي يجوز فيها ذكر الشخص بما يكره في غيبته يعني تجوز الغيبة في مثل هذه الحال إذا كان ذلك في مساق التحذير فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر هذا الرجل لعبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ تحذيرًا له من أن يترك كما ترك، وليس لأجل النيل منه أو التنقص له أو التعييب على صنعه في حال غيبته إنما لأجل أن لا يقع عبد الله فيما وقع فيه هذا الإنسان، والغيبة ينبغي أن يتجنبها الإنسان ما استطاع لكن هناك حالات استثنائية يجوز فيها ذكر الإنسان بما يكره في غيبته وهي مجموعة في ستة أمور أو في ست أحوال.
مواطن جواز الغيبة:
والذم ليس بغيبةٍ في ستةٍ: متظلمٍ (في حال التظلم), ومعرفٍ (في حال التعريف) وحذرٍ (أي في حال التحذير كما هو في هذا الحديث) ولمظهرٍ فسقًا (يعني المجاهر بالفسق) ومستفتٍ (أي في مقام الاستفتاء كأن يسأل إنسان الرجل عن امرأته أو المرأة عن زوجها أو تسأل المفتي عن شخصٍ يعرفه باسمه، ومستفتٍ ومن؟ هذا السادس) طلب الإعانة في إزالة منكر (يعني إذا كان إنسان يطلب يقول: والله فلان يفعل كذا من المنكرات. فسماه وطلب إعانة في إزالة هذا المنكر، كان ذلك من الأحوال التي يجوز فيها ذكر الغير بما يكره).
أسأل الله العظيم أن يرزقني وإياكم ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يحفظ ألسنتنا عما يغضبه وأن يشغلنا بما يرضيه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.