يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللَّه عنه ـ عن النبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ قال: «دَعُونِي ما تَرَكتُكُمْ: إِنَّما أَهْلَكَ من كَانَ قبْلكُم كَثْرةُ سُؤَالِهمْ، وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبيائِهمْ، فَإِذا نَهَيْتُكُمْ عنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وَإِذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ» متفقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ما سكت عنه الشارع فالسؤال عنه تضييق:
هذا الحديث الشريف قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: «دَعُونِي ما تَرَكتُكُمْ» وله سبب؛ وهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر الناس بفرض الحج فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّه قَدْ فَرضَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فحُجُّوا»، فقَالَ رجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رسولَ اللَّهِ؟ فَسَكتَ، حَتَّى قَالَها ثَلاثاً. فَقَال رَسُولُ اللِّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:"لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوجَبت وَلمَا استَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم مؤدبًا أمته فيما يتعلق بسؤاله عما لم يبتدئهم به، قال: «دَعُونِي ما تَرَكتُكُمْ» أي ما لم أخبركم بفرض، أو واجب، أو طلب فلا تسألوا عنه، فإنه لو كان واجبًا لبينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ أن الله ـ تعالى ـ جعل البلاغ مهمته، وهو أمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يمكن أن يخل بشيء أمره الله به أن يبلغه أمته.
«دَعُونِي ما تَرَكتُكُمْ» يعني لا تسألوا عن شيء لم آمركم به، ولم أتحدث به إليكم، «دَعُونِي ما تَرَكتُكُمْ» ثم بين خطورة المسألة في مثل هذا الشأن وهو السؤال عما لا فائدة فيه، أو ما لا فائدة منه، أو السؤال الذي هو سؤال تعنت ومشاقة للشريعة ومبلغها.
كثرة السؤال هلكة:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّما أَهْلَكَ من كَانَ قبْلكُم» يعني الأمم السابقة، «كَثْرةُ سُؤَالِهمْ» هذا واحد، «وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبيائِهمْ» كثرة أسئلتهم فيما طُلب منهم، وفيما لم يُطلب منهم، وأبرز نموذج ومثال لذلك ما ذكره الله في القرآن ما قصه علينا في القرآن من شأن بني إسرائيل لما قال لهم موسى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾[البقرة:67] لم يأمرهم بأكثر من هذا، استقبلوا هذا الأمر:
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ﴾[البقرة:68]هذا السؤال الأول، ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا﴾[البقرة:69] هذا السؤال الثاني، ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾[البقرة:70] هذا السؤال الثالث، ثم لما تبين لهم ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾[البقرة:71] أي لم يكونوا منقادين للاستجابة إنما هي أسئلة تعنت ومشاقه، ولذلك ما كانوا يفعلوا ما أمرهم الله تعالى به.
هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما أَهْلَكَ من كَانَ قبْلكُم كَثْرةُ سُؤَالِهمْ، وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبيائِهمْ» اختلافهم أي عدم استجابتهم، فالاختلاف هنا أي المخالفة لهم، والمشاقة، والتعنت في السؤال والمرجعة، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، قال: «فَإِذا نَهَيْتُكُمْ عنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ» يعني الشيء الذي زجرتكم عنه، ومنعتكم منه، وبينت لكم تحريمه فاجتنبوه، لا تقربوه، ولا تأتوه فإن السلامة في اجتنابه.
وما أمرتكم به يعني ما أخبرتكم بطلبه، وأن الله يريده منكم فأتوا منه ما استطعتم أي افعلوا منه ما تطيقون، وما تقدرون، وهذا بناء على الشريعة السمحة التي رفع الله تعالى فيها الحرج، والآثار كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16]، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286]، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق:7].
فالمأمور يُفعل منه المستطاع لأنه إيجاد، وأما المنهي فالواجب تركه، والترك لا يعجز عنه أحد في الغالب، ولذلك لم يعلقه بالاستطاعة إنما قال: وما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وأما الفعل لأنه إيجاد قد يستطيعه الإنسان، وقد يعجز عنه قال: فأتوا منه ما استطعتم.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
- فيه كراهية السؤال عما لا يفيد.
- وكراهية السؤال عما فيه تعنت، ومشاقة.
- وكراهية السؤال عما يُقصد به إيجاد الحرج والمشقة، لكن ما كان من الأسئلة يُقصد به العلم، والمعرفة، والعمل فإن هذا مأمور به في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43]، لكن المنهي عنه هو أن تسأل سؤال مشاقة، أو افتراضات واحتمالات، أو لأجل أن ترد الأمر مثل ذاك الرجل الذي سأل عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن تقبيل الحجر فقال: "رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستلمه ويقبله"، قال السائل يسأل عبد الله بن عمر: أرأيت إن عجزت؟ أرأيت إن زحمت؟ فقال: دع أرأيت في اليمن، رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستلمه ويقبله"[صحيح البخاري (1611)].
يعني تسأل الآن عن الاستلام ثم لما أخبره بأنه سنة أوجد احتمالات: زحمت، منعت، عجزت، وما إلى ذلك كلها افتراضات لأجل القعود عن العمل، فقال: دع هذه الافتراضات بعيد، وعليك بالسنة.
فالمسائل التي يُنهى عنها هي ما كان من هذا النحو: مسائل تعنت، مشاقة، القصد منها الإحراج، الخروج عن العمل، التخلص من الفرض، وما أشبه ذلك. وأما السؤال الذي يستبين به الإنسان الحقل يعمل به فهذا مما أمر الله به ـ تعالى ـ في قوله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43].
متى تُسْتَحضَر هذه الآية؟
وبه نعلم أن الذين يقولون بعض الناس يأتي بقول الله ـ تعالى ـ: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾[المائدة:101] في مسألة شرعية يعني شخص يريد أن يعرف حلال أو حرام، يجب أو لا يجب، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوؤكم! هذا ما هو بصحيح، هذا تنزيل للآية في غير موضعها، هذه الآية نزلت أولًا في وقت التشريع لما كانوا منهيين عن السؤال لأن سؤالهم قد يترتب عليه فرض أو إيجاب، وهذا جاء فيه التغليظ الشديد في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَن سَأَلَ عن شيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِن أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»[صحيح البخاري (7289)، ومسلم (2358)] في المسلمين من سأل عن شيء لم يشرعه الله ـ تعالى ـ لم يفرضه ففرض من أجل مسألته كما في الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه.
فهذا في وقت التشريع أما بعد ذلك فإنه إذا احتاج الإنسان أن يسأل يجب عليه أن يسأل حتى يستبين الهدى والحق، فهذه الآية: ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ سورة المائدة (101) هي في وقت التشريع، أو في الأسئلة التي فيها تعنت وغلط، أو السؤال عن الغيبيات التي لا يعلمها أحد كسؤال: متى الساعة؟ ومتى يكون كذا مما لا يعلمه أحد.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا يا عليم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.