يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْباضِ بْنِ سَارِيَة ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: وَعَظَنَا رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ مَوْعِظَةً بليغةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون، فقُلْنَا: يا رَسولَ اللَّه كَأَنَهَا موْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا. فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ» رواه أبو داود، والترمذِي وقال حديث حسن صحيح.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
هذا الحديث الشريف حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله تعالى عنه ـ تضمن خبره عن موعظة وعظها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، والموعظة هي التذكير المقترن بالترغيب والتخويف، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتخول أصحابه بالموعظة أي يتحين الفرص لوعظ أصحابه، وتذكيرهم بما ينفعهم في سيرهم إلى ربهم جل في علاه.
تعاهد النبي أصحابه بالمواعظ والوصية بالتقوى:
هذه الموعظة قال عنها في وصفها العرباض ـ رضي الله عنه ـ: وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، أي كانت بليغة حصل منها هذا النوع من التأثر، وأحس الصحابة أنها موعظة مودع أي أنها موعظة مفارق، فطلبوا من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصية يستمسكون بها، تجمع لهم صلاح ما بينهم وبين ربهم جل في علاه، وصلاح ما بينهم وبين الخلق، فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوصية جامعة هي وصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته عبر الزمان: اتقوا الله، فأوصاهم بتقوى الله، «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه» أوصاهم بتقوى الله ـ جل وعلا ـ وهذه الوصية الأولى التي عنها يصلح كل حال الإنسان، وبها يصدر جميع أمره على نحو من الاستقامة في قوله وعمله وسائر شأنه.
التقوى في القلب:
فإن التقوى تكون في القلب يطيب بها ويصلح، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599)]، فبالتقوى يصلح قول الإنسان، بالتقوى يصلح عمله، بالتقوى يصلح قلبه ويطيب، بالتقوى يستقيم على أمر ربه جل في علاه. ولذلك كانت أجمع الوصايا هي وصية الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء:131]
وكيف يتقي العبد ربه؟
أن يجعل بينه وبين كل ما هو سبب للعقوبة وقاية، أجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، بطاعته في الأوامر، وبترك ما نهى عنه وزجر في النواهي فإن هذه هي التقوى، ثم بعد ذلك ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصية لأصحابه يصلح بها معاشهم، ودنياهم، فأوصاهم بالسمع والطاعة: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» السمع والطاعة عنوان للزوم الجماعة، وعدم الخروج عن الأئمة أو الأمة بأن يلزم الإنسان جماعة المسلمين، فلا يشغب عليهم، ولا يفرق جماعتهم، ولا يسعى فيما بينهم بأي شيء من قول أو عمل يعكر صفو التئامهم واجتماعهم، فإن الله ـ تعالى ـ أمر المؤمنين بالاعتصام بحبله وأن لا يتفرقوا، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103].
وبهذين الأمرين يصلح دين الناس، معاشهم، وتصلح دنياهم فإن الجماعة يحصل بها من صلاح الدين والدنيا ما لا يدركه إلا من شاهد حال الناس في حال الفرقة والفتنة والخلاف، فإنه يفسد بذلك دين الناس كما تفسد بذلك دنياهم، ونستكمل ـ إن شاء الله تعالى ـ الحديث على بقية ما تضمن فيما نستقبله وصلى الله وسلم على نبينا محمد.