عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْباضِ بْنِ سَارِيَة ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: وَعَظَنَا رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ مَوْعِظَةً بليغةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُون، فقُلْنَا: يا رَسولَ اللَّه كَأَنَهَا موْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ، وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا. فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ» رواه أبو داود، والترمذِي وقال حديث حسن صحيح.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
وصاة تجمع صلاح الدنيا والآخرة:
هذا الحديث حديث العرباض بن سارية تضمن وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته، وهذه الوصية تجمع صلاح دينهم، وصلاح دنياهم، صلاح الأولى والآخرة، فصلاح الدنيا يقوم على تقوى الله جل وعلا، كما صلاح الآخرة لا يتحقق إلا بذلك ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه» فكانت الوصية الأولى وهي الوصية الجامعة التي ينبثق عنها كل صلاح، وخير في معاش الناس هي تقوى الله جل وعلا.
الوصية بتقوى الله:
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصيته لما قالوا: أوصنا، قال: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللَّه، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ» والسمع والطاعة السمع هو القبول لقول ورأي وأمر من ولاه الله ـ تعالى ـ أمر المسلمين، والطاعة هي: الامتثال فالفرق بين السمع والطاعة أن السمع قبول، والطاعة امتثال، والفرق بينهما أنهما إذا اجتمعا لا يمكن أن يتحقق معنى كل واحد منهما إلا بالاستقلال، فالسمع القبول والطاعة الامتثال وذلك أنه قد يمتثل الإنسان أمرًا دون أن يقبله.
القبول والامتثال:
فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأمرين وهو القبول الذي يتضمن الرضا، والامتثال الذي يتضمن العمل، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ» إشارة إلى قبول قول وأمر من ولاه الله ـ تعالى ـ الأمر وله الولاية على أهل الإسلام، مهما كان نسبه، ومهما كان شأنه ولو كان في نظر الناس محتقرًا، أو قليل المكانة ضعيف المنزلة، فإن مصدر القبول لأمره هو ولايته، لا ما هو عليه من نسب، أو شرف، أو مكانة، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإِنْ تَأَمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حبشيٌ» وهو يخاطب عربًا لهم من العناية بالأنساب وشرفها ومكانتها ما هو معروف، ومع ذلك أمرهم بهذا الأمر الذي فيه ما فيه من المشقة والصعوبة على نفوس أولئك.
السمع والطاعة ولو لعبد:
وقد جاء في حديث في صحيح الإمام البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «اسْمَعُوا وأطيعوا، وإنِ اسْتُعْمِل علَيْكُمْ عبْدٌ حبشىٌّ، كَأَنَّ رَأْسهُ زَبِيبَةٌ»،صحيح البخاري (693) فوصفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جهة النسب بالدنو، ومن جهة الشكل بالدمامة التي تنفر النفوس عادة من قبول أمره، وذلك أن السمع والطاعة عليهما صلاح معاش الناس، وبهما يصلح معادهم، فإن صلاح معاش الناس لا يتحقق إلا بالسمع والطاعة، والسمع والطاعة ليس فيها يحب الإنسان فقط بل ما يحبه الإنسان يسمع ويطيع فيه من دون أمر.
ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اسْمَعُوا وأطيعوا، وإنِ اسْتُعْمِل علَيْكُمْ عبْدٌ حبشىٌّ، كَأَنَّ رَأْسهُ زَبِيبَةٌ»، وفي حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: «عَلى المَرْءِ المُسْلِم السَّمْعُ والطَّاعَةُ فِيما أَحَبَّ وكِرَه» صحيح البخاري (7144)وهذا يدل على أن الطاعة تكون حتى فيما يكرهه الإنسان، وفي كل أحواله، ولذلك بايع أصحابه على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثرة عليهم يعني ولو كانت الولاية نقصتهم شيئًا من أمورهم، أو مصالحهم، أو حقوقهم، فإن ذلك لا يمنع ولا يؤثر في السمع والطاعة بل السمع والطاعة واجبًا لولاة الأمر مهما كانت حالهم ما دام أنهم لم يأمروا بمعصية، ولذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما بايعهم على ذلك في حديث عبادة قال لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَعلى أَثَرَةٍ عَليْنَا، وعَلَى أَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ» صحيح مسلم (1709) قالوا له ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يتعلق بالخروج على الولاة قال: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاَةَ».
إنما الطاعة في المعروف:
فدل هذا على وجوب السمع والطاعة في كل الأحوال ما دام أنهم لم يأمروا إلا بطاعة أو مصلحة، فالأوامر التي تصدر عن ولاة الأمر لها ثلاث أحوال:
- أن يأمر بطاعة فهذا يجب طاعتهم فيه طاعة لله، وطاعة لولاة الأمر.
- الثاني: أن يأمروا بما فيه مصلحة مما يتحقق به صلاح معاش الناس ولو لم يأمر به الله بعينه، فهنا يجب طاعتهم لأن ذلك يتحقق به المصلحة وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
- الحال الثالثة: أن يأمروا بمعصية فهنا لا سمع ولا طاعة أي لا قبول للأمر ولا طاعة، لكن هذا لا يسوغ الخروج عليهم، ولا أن ينازعوا الأمر بل يكتفي الإنسان في ذلك بأن لا يطيع فيما يستطيع أن لا يلتزمه.
ولهذا في حديث جرير بن عبد الله النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال ـ رضي الله تعالى ـ: «بايَعْنَا رسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلى السَّمْعِ والطَّاعةِ» ثم أسر إليه كلمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسر إلى جرير كلمة قال: «فيما اسْتَطَعْتُمْ»، يعني بقدر طاقتك واستطاعتك، وهذا يبين أن جميع الأوامر منوطة كما قال الله تعالى بالاستطاعة كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[التغابن:16].
ماذا يفعل عند الاختلاف:
ثم بعد هذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا» يعني ستختلف الأمور وهذا خطاب للصحابة في زمن قريب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف بالأزمنة البعيدة عن عهده، وزمن صحابته، وزمن القرون المفضلة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَأَنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيرى اخْتِلافاً كثِيرا» المخرج من شؤم هذا الاختلاف، وهذا التغير في أمرين: الأمر الأول: «فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي» أي بطريقتي وهديي، فإن المقصود بالسنة هو ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عبادة ربه وفي سائر شأنه في الواجبات، وفي المستحبات، وليس المقصود بالسنة هنا ما يقابل الواجب بل السنة هنا هو هديه وطريقته.
«وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ» أي وعليكم بسنة الخلفاء الراشدين الذي يأتون بعده وهم أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ رضي الله تعالى عنهم ـ بإجماع الأمة أن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين يجب لزوم سنتهم والأخذ بهديهم كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: «فَعَلَيْكُمْ بسُنَّتي وَسُنَّةِ الْخُلُفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ» أي تمسكوا بها ما استطعتم تمسكًا قويًا على نحو ما يعض الإنسان على شيء بفمه إذا أراد أن يقبضه، أو أراد أن يتمسك به، وهذا يدل على المعاناة، وأن التمسك بالسنة وبهدي الخلفاء الراشدين ليس أمرًا يسيرًا بل يحتاج إلى أن يبذل الإنسان جهدًا، ويعاني في ذلك ما يعاني حتى يصل إلى لزوم هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهدي الخلفاء الراشدين.
المخرج من كل ظُلمة وفتنة:
وبه يُعلم أن المخرج من كل فتنة، والمخرج من كل إشكال، والمخرج من كل ظلمة في الدنيا هو في لزوم هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهدي الخلفاء الراشدين، فإنه من استمسك بذلك نجا، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وخَيْرَ الْهَدْى هدْيُ مُحمِّد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدثَاتُهَا وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» فمن لزم السنة نجا، فالسنة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها تخطفته سبل الردى، وطرق الضلالة.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ألزمنا هديه سرًّا وعلنًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.