يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: عن أَبِي مسلمٍ، وقيلَ: أَبِي إِيَاسٍ سلَمةَ بْنِ عَمْرو بن الأَكْوَعِ ـ رضي اللَّه عنه ـ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رسولِ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ بِشِمَالِهِ فقالَ: «كُلْ بِيمِينكَ» قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. قالَ: «لا استطعَت» ما منعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ فَمَا رَفعَها إِلَى فِيهِ" رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فهذا الحديث حديث سلمة بن الأكوع ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه خير حدث كان بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أن رجلًا أكل عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يبين سبب هذا الأكل ولا نوعه، لأن الشأن فيما جرى من حدث يتعلق بتوجيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغض النظر عن الأكل، وعن سببه. فأكل هذا الرجل بشماله، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلْ بِيمِينكَ» أمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأكل باليمين، وذلك أن الشيطان يأكل بشماله، وقد نهينا عن التشبه به وموافقته، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فإنَّ الشيطانَ يأكل بشمالِه ، ويشرب بشمالِه» صحيح مسلم (2020) فنهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأكل والشرب بالشمال لما في ذلك من التشبه بالشيطان، والتشبه بالشيطان موافقة له في الظاهر قد تؤدي إلى الموافقة في الباطن، ولهذا الشريعة نهت عن التشبه بأهل النقص من أهل الكفر، والفجور، والفسوق، بل حتى نهت عن التشبه بمن نقص دينه ممن نزلت مرتبته، وكذلك نهت عن التشبه بالحيوان، كل ذلك لأن الشريعة جاءت بالتكميل والسمو بالإنسان إلى أعلى ما يمكن أن يكون عليه من صالح الأخلاق، وطيب الخصال: «إنما بعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاقِ«.
الذم على التنصل من ترك السنة، لا من مجرد تركها:
فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأكل باليمين، أمر هذا الرجل بأن يأكل بيمينه قال: «كُلْ بِيمِينكَ»، وظاهر الأمر أنه مستطيع أن يأكل باليمين ولو كانت اليمين معطلة لا يستطيع أن يأكل بها لما أمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأكل بيمينه، لكن هذا الرجل لم يمتثل أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: لا أستطيع، اعتذر بعدم القدرة، ولم يكن في ذلك صادقًا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا استطعَت»، لا استطعت دعاء منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مطابق لما ادعاه، فهو ادعى أنه لا يأكل باليمين لأنه لا يستطيع رفعها أو تعاطي الطعام بها، فصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أثبته لنفسه، فقال: «لا استطعَت»، بما أنك تزعم أنك لا تستطيع وهذا خلاف الواقع لا استطعت، وهو دعاء منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو خبر أن ما تكلم به سيكون.
فلا يخلو من حالين: قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا استطعَت»؛ إما أنه خبر بأنه سيكون كما ذكرت، وهذا من حال الإنسان إذا تكلم بكلام قد يبتلى به، احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق، قد يتكلم الإنسان بكلام وهو غير واقع أو لم يحدث له، فيبتلى بهذا الذي تكلم به، وإما أن يكون هذا من دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم عليه ـ وهذا قول أكثر أهل العلم أن النبي دعا عليه، لما قال: «لا استطعَت» وهو مستطيع وإنما امتنع من ذلك معصية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا استطعَت»، فما رفعها إلى فيه.
يقول الصحابي سلمة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: ما منعه إلا الكبر، يعني ما منعه أن يمتثل توجيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا الكبر.
هل كان الرجل صحابيا أم منافقا؟
هذا الرجل من أهل العلم من قال: أنه من المنافقين، وقال آخرون: بل هو صحابي من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن الصحابة ليسوا معصومين قد يقع منهم الخطأ، فقد وقع منهم جملة من الأخطاء التي أوجبت عقوبات لهم، ومنها هذا الذي جرى لهذا الرجل الصحابي ـ غفر الله له ورضي الله عنه ـ فإنه قال: ما استطعت، ممتنعًا من إجابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدعا عليه صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده:
- أنه ينبغي للإنسان أن يحرص على الأكل باليمين، والشرب باليمين، والأخذ باليمين، والعطاء باليمين، فإن ذلك هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما أمر به، وأن يتجنب ترك ذلك فإنه مشابهه للشيطان.
-وفيه من الفوائد أنه ينبغي أن يحذر الإنسان أن يتكلم بما ليس فيه، فإن هذا الرجل قال: لا استطيع وهو مستطيع، فابتلي سواء أن بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بدعائه بما زعمه وادعاه في نفسه.
- وفي هذا الحديث أن من ادعى خلاف الواقع فإنه لا يصدق في قوله، لأن هذا شيء يشاهد فرجل يده تتحرك وتأخذ وتعطي، فلما أمر بالأكل باليمين قال: لا أستطيع، هذا خلاف الواقع، ولذلك قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا استطعت، في حين أنه في مواطن عديدة كان يسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحابة عن مسائل فيقولون بعدم القدرة أو عدم الاستطاعة فيسلم لهم؛ لأن الاستطاعة أمر بين الإنسان وربه لكن إذا خالف هذا الواقع كان هذا موجبًا للتنبيه على الخطأ.
- وفيه أن الدعاء على المخالف المعاند مشروع فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا عليه، ويدعى عليه بما ادعاه، أو بما يناسب ما ادعاه، أو بما وقعت فيه المخالفة فإن ذلك ليس من الاعتداء في الدعاء الذي يوجب المنع، فإن الدعاء على المسلم بإثم أو قطيعة رحم لا تستجاب، لكن إذا كان هذا في حق ظالم، أو في حق صاحب منكر مصر عليه، أو ما أشبه ذلك فإنه لا حرج فيه، وليس من الدعاء بالإثم، وقد فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في هذا الحديث.
- وفيه من الفوائد أن الإنسان ينبغي له أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر في كل أحواله، فهذا في طعام وعند النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فلا يمتنع الإنسان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق، ليحقق الكمال له في نفسه بأن يأتي يفعل ما أمره الله ـ تعالى ـ به من الائتمار بالمعروف، والانتهاء عن المنكر، وكذلك يوجه غيره.
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للآمر والمأمور:
وهنا تنبيه إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست مصلحته للمأمور والمنهي، إنما مصلحته أيضًا للآمر، فأنت تأمر وتنهى طاعة لله، وتؤجر على ذلك، وإذا تركت ذلك قد يلحقك إثم، فليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة محضة للمأمور والمنهي حتى يقول من يقول بتركها، إنما المصلحة فيها للطرفين.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يتبعنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وأن يلزمنا سنته، وأن يعيننا جل في علاه على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.