يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: عن جابرٍ ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: قال رسول اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ: «مثَلِي ومثَلُكُمْ كَمَثَل رجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَراشُ يَقَعْنَ فيهَا وهُوَ يذُبُّهُنَّ عَنهَا وأَنَا آخذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النارِ، وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ منْ يَدِي» رواه مسلمٌ.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
منة الله على البشرية بالنبوة:
فقد أكرم الله ـ عز وجل ـ البشر ببعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، وقد بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عظيم الرحمة التي امتن الله ـ تعالى ـ بها على الناس ببعثته وما جاء به من الهدى ودين الحق، بهذا المثال الذي ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث حديث جابر، حيث قال: «مثَلِي ومثَلُكُمْ» أي صفتي وصفتكم، يقرب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاله مع أمته، ومع الناس في دلالتهم على الخير، ووقايتهم الشر. «كَمَثَل رجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً» شب نار، «فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَراشُ» أي الحشرات التي تجتمع على النار، «يَقَعْنَ فيهَا وهُوَ يذُبُّهُنَّ عَنهَا» يعني يمنعهن من الوقوع في هذه النار؛ لأن إقبال هذه الحشرات على هذا الضوء، وهذه النار يفضي إلى هلاكهن.
تفلت الناس عن أيدي الدعاة:
الناس كذلك فيما يتعلق بما جاء الله ـ تعالى ـ به من الهدى ودين الحق، فقد جاء الله ـ تعالى ـ بنور مبين، وهدى مستقيم، وأخرج الله ـ تعالى ـ ببعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الناس من الظلمات إلى النور، هم إذا خرجوا عن هديه، عن صراطه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقعوا في أنواع من الضلالات والانحرافات والهلاك في دينهم ودنياهم.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزود الناس عن هذا الخروج، يمنعهم عن هذا الانحراف والخروج عن الصراط المستقيم الذي يوصل إلى رب العالمين، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وأَنَا آخذٌ بحُجَزِكُمْ عَنِ النارِ» أي بموطن الوسط مما يربط على الوسط ويشد من الألبسة والمشاد التي يحفظ بها وسط الإنسان إما تقوية، أو حفظ لباسه.
حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هداية الناس:
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شدة حرصه على لزوم الصراط المستقيم، ووقاية الناس الهلاك مثل نفسه بالذي يأخذ الناس من جحزهم، أي يمسكهم من أوسط أبدانهم ليمنعهم من الوقوع والانحراف. ويقول: «وأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ منْ يَدِي» يتفلت الناس من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمرين:
- إما بترك ما أمر من الهدايات والفرائض والشرائع.
- وإما بالوقوع فيما نهى عنه من المحرمات، والسيئات، فإن الخروج عن الصراط المستقيم يكون بأحد هذين الأمرين: إما بترك المأمور كترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج، أو ترك التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، أو بمواقعة المحرمات من الشرك، والسحر، والزنا، والسرقة، وموبقات الذنوب، وعظائم الإثم في حقه، وفي حق الخلق كعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وخيانة الأمانات، وما أشبه ذلك.
عظيم رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس:
كل هذا مما يخرج به الإنسان يتفلت به عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا التمثيل يبين عظيم رحمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾[التوبة:128]، من شدة حرصه هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إقامة الناس على الحق كالذي يأخذ بحجز الناس يمسكهم أن يقعوا في الهلاك، أو الضلال، أو الانحراف، ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128]، والرأفة أعلى درجة من الرحمة، وكلاهما ثابت له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولهذا ينبغي لكل من رغب في النجاة والسلامة أن يلزم هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا نجاة، ولا سلامة، ولا وقاية من الشرور، ولا حصول للمأمول بالفوز بجنة عرضها السموات والأرض إلا بلزوم ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيقن جازمًا أن كل ما أمرك الله ـ تعالى ـ به فهو لمصلحتك، وكل ما نهاك عنه فهو لوقايتك وحفظك، وأنت الموكول إليه الأمانة في حفظ ذلك ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء:58].
فاحفظ نفسك، ولا تلقِ بنفسك إلى التهلكة بمعصية الله ورسوله، واحمد الله على هذه النعمة العظيمة بهذا الرسول الكريم الذي جعله الله تعالى سببًا للنجاة يخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ورزقنا اتباع سنته ولزوم هديه، وحشرنا في زمرته، ورزقنا مرافقته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.