يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها.
عن جابرٍ ـ رضي اللَّه عنه ـ قال: أَنْ رسولَ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ أَمَر بِلَعْقِ الأَصابِعِ وَالصحْفةِ وقال: «إِنَّكُــم لا تَدْرُونَ في أَيِّهَا الْبَرَكَةَ» رواه مسلم. وفي رواية لَهُ: «إِذَا وَقَعتْ لُقْمةُ أَحدِكُمْ. فَلْيَأْخُذْهَا فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، وَلْيَأْكُلْهَا، وَلا يَدَعْهَا لَلشَّيْطانِ، وَلا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمَندِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعهُ، فَإِنَّهُ لا يدْرِي في أَيِّ طَعَامِهِ الْبَركَةَ» . وفي رواية له: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَان بِهَا منْ أَذًى، فَلْيأْكُلْها، وَلا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
جملة من الآداب النبوية:
هذا الحديث الشريف حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ تضمن جملة من الآداب النبوية التي بها يكمل حال الإنسان، فإن النبي ـصلى الله عليه وسلم ـ بعثه الله بالهدى ودين الحق متممًا لصالح الأخلاق كما جاء في المسند بإسناد جيد أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ، وفي روايةٍ «صالح» الأخلاقِ»[مسند أحمد (8952) وصححه محققو المسند] لأكمل صالح الأخلاق.
لم يترك ـ صلى الله عيه وسلم ـ شيئا من الخير إلا دل عليه، أو من الشر إلا حذر منه:
فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يترك من الخير شيئًا إلا دل الأمة عليه في عام شأنها وفي خاصة، حتى في خاصة الإنسان وما يكون من شأنه الذي لا يشاركه فيه غيره، فلم يترك شيئًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الخير إلا دل عليه، ولا شيئًا من الشر إلا حذر منه.
عداوة الشيطان للإنسان:
ومن ذلك تحذيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشيطان، فالشيطان عدو الإنسان الذي لا يفتأ، ولا ينفك أن يلحق بالإنسان الأذى والضرر من كل وجه في شأنه كله، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ» في شأنه كله، ما من شيء من شأن الإنسان إلا والشيطان يحضر فيه، بمعنى أنه يكون متربصًا للإنسان في أن ينال منه ما يكره، أن يوقعه فيما يضره، أن يقلل ما يكون من الخير فيه.
هذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأْنِهِ» فما من شيء من شأن الإنسان إلا والشيطان عدو مرصد كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾[فاطر:6]، فمن عداوته أنه يرافق الإنسان ويلازمه، ويسعى في إيقاع الضرر فيه في نقص الخير فيه، في صده عن الكمال في شأن دينه، وفي شأن دنياه كما قال الله ـ تعالى ـ في خبره عن الشيطان: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف:16] لبني آدم يقعد الطريق الموصل إلى الله، الموصل إلى الهدى، الموصل إلى الخير، ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف:16] تخيل وأنت في طريق تمشي وثمة عثرة بين يديك.
هذا هو الشيطان، هذا نموذج ومثال للشيطان في قعوده للإنسان في كل طريق من طرق الخير، وطريق من طرق البر، ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [16] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف:16-17]، محاصرة وحرص على إيقاع الإنسان في كل شر وضر.
الشيطان يحضر الإنسان في كل أحواله:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدكُمْ» ما المقصود بالشيطان؟ هل الشيطان إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة؟ أم هو شيطان من ذريته؟ أم ماذا؟
يحتمل الأمر المعنيين: يحتمل أنه شيطان الذي أخرج آدم من الجنة، وزين له الأكل من الشجرة، ويحتمل أنه من ذريته فالشيطان له ذرية من جنسه من الجن، يسعون في الأرض فسادًا كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾[الأنعام:112]، فالمقصود بالشيطان هنا إما إبليس عليه من الله ما يستحق، وإما من كان من ذريته ممن يقارنون الإنسان ويسعون في إضلاله وهم من جند إبليس، فيأتمرون بأمره، ويسعون في غرضه وشأنه.
والمقصود أن الشيطان يحضر الإنسان في كل أحواله سواء أن كان الأب الشيطان الأكبر، أو كان ذلك من ذريته الذين يسعون إلى إضلال الإنسان. وبالتالي هذا الخير يدعو الإنسان إلى اخذ الحيطة والحذر، والاستعداد والتهيؤ، وأن لا يغفل عن الأسباب المانعة من تسلط الشيطان؛ لأن الشيطان إذا تسلط على الإنسان أغواه وأضله كما قال الله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾[المجادلة:19]، الاستحواذ هو التمكن التام من الشيء حتى لا ينفك منه، ولذلك قال: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾[المجادلة:19].
وجوب الحذر من الشيطان:
فينبغي للإنسان أن يكون على غاية الحذر من الشيطان، وأن يغلق عليه الأبواب، ومن ذلك لزومه السنة، وأخذه بهدي سيد الأنام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنه يغلق على الشيطان الطرق من الأذكار، والاستعاذة بالله من الشيطان، وطلب الاحتماء به سبحانه فأعوذ بالله من الشيطان أي اعتصم بالله، واحتمي بالله، والتجأ إليه في أن يكف عني شر الشيطان.
الاعتصام بالله من الشيطان والتزام الهدي:
فينبغي للإنسان أن يعتصم بالله، وأن يحتمي به جل في علاه، وأن يأخذ بهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دقيق الأمر وجليله حتى يتوقى شر الشيطان، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن شيء من كيد الشيطان ومشاركته للناس فيما يتعلق بالطعام، اللقمة وسائر الطعام الذي يكون للإنسان إذا وقع في الأرض فإنه يدعوه إلى تركه، والزهد فيه، وعدم رفعه تكبرًا وسعيًا في نقص الإنسان هذا الطعام وإضاعة ماله، ولذلك أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا سقطت اللقمة من أحدنا أن يرفعها ويميط ما فيها من الأذى، يزيل ما أصابها مما يكره، فالأذى هنا قد يكون نجاسة، قد يكون قذرًا تأنف منه نفس الإنسان من تراب أو غير ذلك يعلق بالمأكول، فهنا يسعى الإنسان في تنقية طعامه وإزالة الأذى، ولا يترك ما يمكن أن ينتفع به من طعامه، وليأكله.
قال: «وَلا يَدَعْهَا لَلشَّيْطانِ» ثم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملحظا آخر فيما يتعلق بعدم تضييع شيء من الطعام، قال: «فَإِنَّهُ لا يدْرِي في أَيِّ طَعَامِهِ الْبَركَةَ» هذا في روايات الحديث في أمره باللعق، وفي أيضًا أمره بأخذ الطعام وعدم إضاعة شيء منه، لأن الإنسان لا يدري في أي طعامه البركة، وما هي البركة المقصودة في قوله: «إِنَّكُــم لا تَدْرُونَ في أَيِّهَا الْبَرَكَةَ». المقصود بالبركة هنا النفع للبدن، والتقوية على طاعة الله عز وجل.
فإن بركة الطعام تدرك من جهتين:
من جهة أن يكون نافعًا للبدن بالصحة، والقوة، والعافية، والكفاية، ومن جهة أنه يستعمل في طاعة الله، ويكون عونًا له على طاعة الله، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السُّحُورِ بَركَةً»، ومقصوده بالبركة هنا الأجر والمثوبة، إضافة إلى هذا أنه عون للإنسان على طاعة الله، وأنه عون للإنسان في صحته وبدنه.
وجوب التنبه للعدو المتربص بالإنسان دوما:
فينبغي للإنسان أن يربي نفسه على المعنى العام وهذا صورة من الصور، المعنى العام أن يكون حذرًا من الشيطان في كل شأنه، يكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان، ولا يغفل عن هذا العدو الذي يتربص بك كل لحظة وثانية أن ينال منك، وأنت نائم ويقظان، فعداوته لا تنفك، ولذلك شرعت لك الأذكار في الصباح، والمساء، وعند الأكل، والدخول إلى الخلاء، والخروج منه، والنوم، والاستيقاظ، كل هذا لتوقي شر الشيطان وكيده أعاذنا الله وإياكم منه، وحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعزته أن نُغتال من تحتنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.