يقول المصنف رحمه الله تعالى: عن ابن عباس ـ رضيَ اللَّه عنهما ـ قال: قَامَ فينَا رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ بمَوْعِظَةٍ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ محشورونَ إِلَى اللَّه ـ تَعَالَى ـ حُفَاةَ عُرَاةً غُرْلاً ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً علَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء: 103] أَلا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبراهيم ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ أَلا وإِنَّهُ سَيُجَاء بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِى، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمال فأَقُولُ: يارَبِّ أَصْحَابِي، فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُول كَما قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿وكُنْتُ عَلَيْهمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهمْ﴾ إِلَى قولِهِ: ﴿العَزِيز الحَكيمُ﴾[المائدة: 117، 118] فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مرْتَدِّينَ عَلَى أَعقَابِهِمْ مُنذُ فارَقْتَهُمْ» متفقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فهذا الحديث حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقص فيه خبر موعظة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: «قَامَ فينَا رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بمَوْعِظَةٍ» ابن عباس توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو لم يبلغ الحلم فحفظ عنه هذه الموعظة مع صغر سنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَيُّهَا النَّاسُ» خطاب لعامة الناس وهكذا خطاب القرآن فإنه في أول نداء نادى الله تعالى فيه وخاطب البشر خاطبهم على وجه العموم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:21]، وهذه الموعظة تضمنت التذكير باليوم الآخر: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ محشورونَ» أي مجموعون إلى الله ـ عز وجل ـ يوم القيامة «حُفَاةَ عُرَاةً غُرْلاً».
أحوال الناس حال خروجهم من قبورهم:
فذكر ثلاثة أوصاف لحال الناس في خروجهم من قبورهم وجمعهم ليوم المعاد: حفاة ليس في أرجلهم ما يقيهم مما يكون في الأرض مما يكرهون، عراة ليس على أبدانهم كساء يتوقون به ما يكون أو يسترون به عوراتهم فهم مكشوفون تمام الكشف ليس ثمة ما يغطيهم، غرلًا أي غير مختونين.
قال الله ـ تعالى ـ في استدلال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه الحال: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء:104]، ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾[الأنعام:94]، وفي هذه الآية التي ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاستدلال دليل على رجوع الناس إلى الحال السابقة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الناس باليوم الآخر كثيرًا لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان على حال مستقيمة في دينه ودفي دنياه مع غياب ذكر اليوم الآخر.
الغفلة سبب الحيدة عن الصراط:
ولهذا الغفلة عن اليوم الآخر هي أعظم ما يخرج الإنسان عن الصراط المستقيم؛ لأن بها يتمكن الهوى، ويتمكن الشيطان، ويتمكن أصحاب السوء من الإنسان فيوقعونه في المهالك، لكن إذا كان نصب عينيه، وأمامه ذكر المعاد، وذكر الرجوع إلى الله ـ عز وجل ـ وأنه محاسب على ما يكون من عمل، وأنه سيجزى على ما يجري منه في هذه الدنيا فإن ذلك سيردعه عن كل سيئة، وسينشطه ويقويه على كل حسنة وصالحة.
ولهذا يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه باليوم الآخر كما القرآن يذكر باليوم الآخر في آيات كثيرة بذكر أحواله، وأهواله، وما يكون فيه من وقائع وأحداث.
أول من يكسى من الناس يوم القيامة سيدنا إبراهيم:
ثم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول من يكسى من الناس يوم القيامة، فذكر أن أول من يكسى إبراهيم ـ عليه السلام ـ وذلك أنه إمام المتقين، والموحدين، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120]. فالشاهد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر عن فضيلة إبراهيم وهي أنه أول من يكسى يوم القيامة، وذلك لسبقه إلى التوحيد، وأنه أبو الأنبياء الثالث؛ لأن أباهم الأول آدم ثم نوح ثم إبراهيم الذي كانت أكثر الأنبياء من ذريته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لزوم الحذر من أسباب الشر والفساد:
ثم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد ذلك ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الحذر، والوقاية من أسباب الشر والفساد، فهذا الحديث تضمن التذكير بالآخرة، وتضمن بيان حال الناس في ذلك المعاد، وتفاوتهم في الفضل فإن إبراهيم ميز عن غيره بهذه الفضيلة، وإن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسبق الناس إلى كل فضل ولكن السبق في فضيلة لا يلزم منه السبق في كل الفضائل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم.