يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: عَنْ أَبِي سعيدٍ عبدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ، رضي اللَّه عنه، قال: نَهَى رسولُ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ عَن الخَذْفِ وقالَ: «إِنَّهُ لا يقْتُلُ الصَّيْدَ، ولا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ، ويَكْسِرُ السِّنَّ» متفقٌ عليه.
وفي رواية: أَنَّ قريباً لابْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ، فَنَهَاهُ وقال: إِنَّ رسولَ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ نَهَى عن الخَذْفِ وقَالَ: «إِنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْداً» ثُمَّ عادَ فقالَ: أُحَدِّثُكَ أَن رسولَ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ نَهَى عَنْهُ، ثُمَّ عُدْتَ تَخْذِفُ،؟ لا أُكَلِّمُكَ أَبداً.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد.
هذا الحديث حديث عبد الله بن مغفل ـ رضي الله تعالى عنه ـ في نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخذف، والخذف هو الرمي بعبث أو حصى يضعها الإنسان بين الإبهام والسبابة، هذا هو الخذف نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وبين علة النهي فقال: «إِنَّهُ لا يقْتُلُ الصَّيْدَ، ولا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ» فلا يفيد ليس فيه مصلحة لا بصيد ولا بجرح عدو والنيل منه، «وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ» يعني يفقعها، «ويَكْسِرُ السِّنَّ» فبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن هذا الفعل ليس فيه مصلحة وفيه مفسدة.
الشريعة تدور على جلب المصالح ودرء المفاسد:
والشريعة في كل أحكامها وما جاءت به تدور على تحصيل المصالح ودفع المفاسد، فما كانت فيه مصلحة أمرت به إما أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وما فيه مفسدة نهت عنه إما نهي تحريم، وإما نهي كراهة، وهذا في كل التشريعات سواء أن ما كان منها من الأصول، من أصول الأحكام، أو من الآداب ما جاءت به الشريعة من الفرائض والشرائع.
وبالتالي يعلم الإنسان أن كل ما فيه مفسدة فإن الشريعة تنهى عنه، وكل ما لا مصلحة فيه فإن الشريعة تنهى عنه، والأمر إما أن يكون فيه مصلحة، وإما أن يكون فيه مفسدة، وإما ألا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة، وإما أن تتعارض المصالح والمفاسد، فما فيه مصلحة أمرت به، وما فيه مفسدة نهت عنه، وما لا مصلحة فيه ولا مفسدة لم تأمر به ولم تنهى عنه، وما تزاحمت فيه المصالح والمفاسد عند ذلك القاعدة أن درأ المفسدة مقدم على جلب المصلحة إلا أن تكون المصلحة أعظم من المفسدة المترتبة على الفعل.
وهذه من المسائل التي يحتاجها الإنسان في معاشه، في التصرفات العادية فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم عن الخذف وهو فعل عادي وليس عبادي، يفعله الناس على وجه العادة إما لصيد، وإما للنيل من شيء، فبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الأفعال التي لم يأتي بها أمر في الشريعة، ولم ينهى عنها هي دائرة بين تحقيق المصلحة، ودرأ المفسدة، فما كان فيه مصالح أمرت به، وما كان فيه مفسدة نهت عنه، وما تزاحمت فيه المصلحة والمفسدة ينظر في ذلك بقدر المصلحة، وبقدر المفسدة، وإذا تساويا فدرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
موقف الصحابة ممن لا يمتثل أوامر النبي صلى الله عليه وسلم: في بقية الحديث ذكر الراوي أن قريبًا لعبد الله بن المغفل سمع النهي لكنه لم يمتثل، فكان من شأن عبد الله بن مغفل ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن قال: لا أكلمك أبدًا، وهذا لتعظيمهم أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهيه، فإن الصحابة لم يكونوا يستفصلون فيما كان يأتيهم من الأوامر والنواهي، لا يستفصلون هو حرام أو هو مكروه؟
بل ما جاءهم من الأمر قبلوه وبادروا إليه وجوبًا أو استحبابًا، وما جاءهم من النهي لم يتوقفوا حتى ينظروا هل هو للتحريم أو للكراهة، بل كانوا يبادرون إلى ما أمر به، وينتهون عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم.
مشروعية الهجر بضوابطه:
فلما رأى من هذا القريب ما رأى من عدم امتثاله لنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الخذف، قال: لا أكلمك أبدًا، وذلك أنه يشرع أن يهجر من يخالف أمر الله، وأمر رسوله هجرًا يكون فيه إصلاحه؛ لأن الهجر ليس غرضه المباينة، والمفارقة، وقطع الصلة، وإنما المقصود منه الإصلاح، فالهجر دواء.
ولذلك يؤخذ منه بقدر تحقيق المصلحة، وقوله: لا أكلمك أبدًا، لا يعني أنه سيستمر حتى لو ترك، لكن لا أكلمك أبدًا ما دمت على هذه الحال من عدم امتثال أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعراضك عن قبول ما جاء به، مع أن هذا من الأمور العادية، وبه يُعلم أن ما يفعله بعض الناس من رمي الحمام، ورمي الحيوان سواء أن كان بالبنادق، أو بما يسمى بالنبل وما أشبه ذلك، كله مندرج في هذا المعنى، كل ما لا يحقق مصلحة، ويُخشى معه المفسدة فيجب تركه.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.