يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: وعنْ عابسِ بن ربيعةَ قال: رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ يَعْنِي الأَسْوَدَ ويَقُولُ: إِني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، ولَوْلا أنِّي رأَيْتُ رسولَ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ. متفقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
كل العبادات لابد أن تكون على وفاق الشرع:
هذا الحديث حديث عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في تقبيل الحجر أصل في بيان أن العبادات وجميع التقربات لا تكون إلا على وفق هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى نحو ما ثبت عنه، فخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في عمله: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»صحيح البخاري (2697)، أي مردود فكل ما يتقرب به الإنسان إلى الله ـ عز وجل ـ من الأعمال ينبغي أن يبحث عن أصله في فعل سيد الأنام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنه لا يقبل من العمل إلا ما كان على وفق هديه.
فقد بين ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل ما يقرب إلى الله، عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قبل الحجر، وقال: "إِني أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ" أي ليس منك نفع في ذاتك، ولا ضرر من قبلك، فالنفع والضر بيد الله ـ عز وجل ـ الذي له الأمر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِه﴾[يونس:107].
فله جل في علاه الأمر كله وإليه يُرجع، وإنما قبل الحجر إتباعًا، ولذلك قال: "ولَوْلا أنِّي رأَيْتُ رسولَ اللَّه ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ـ يُقَبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ" فأثبت أن التقبيل ليس لشيء يخص الحجر إنما إتباع لهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسير على نهجه، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قبل الحجر لكونه مما أمر الله ـ تعالى ـ بتعظيمه، وينبغي أن يُعلم أن كل ما أمر المؤمن بتعظيمه فإنه لا يخترع طريقًا للتعظيم بل يكون تعظيمه على وفق ما جاءت به الشريعة، وعلى وفق ما شرع النبي صلى الله عليه وسلم.
لا تعظيم لحجر في الإسلام:
فتعظيم الحجر ليس بالتبرك به، وليس باعتقاد النفع والشر فيه، إنما بتقبيله على نحو ما كان عليه عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليُعلم أيها الإخوة أنه ليس في الدنيا شيء يُقبل تعبدًا وتقربًا في تقبيله من الجمادات إلا الحجر السود، فإنه ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقبيله. أما تقبيل سائر الأحجار بل حتى الركن اليماني، والكعبة فإنها لا تقبل، إنما يُقبل الحجر الأسود امتثالًا لفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرًا على نهجه.
ولم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقبيل الحجر الأسود إلا في الطواف في افتتاحه وفي اختتامه، ولم يُنقل عنه أنه قبله في غير طواف، ولهذا عامة أهل العلم على أنه لا يُقبل إلا في الطواف تقربًا وإتباعًا للسنة. وبعض أهل العلم قال: بما أنه ثبت التقبيل في الطواف فإنه يثبت في غيره؛ لكن الأقرب لإتباع السنة أن لا يكون التقبيل إلا في الطواف في افتتاح الطواف، وفي ختمه.
والتقبيل هو أحد الأوجه التي ثبتت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحجر، والثابت عنه أربع مراتب:
- المرتبة الأولى: الاستلام بالتقبيل.
- والمرتبة الثانية: الاستلام باليد وتقبيل اليد.
- والمرتبة الثالثة: الاستلام بشيء كالعصا أو نحوها مما لا يصل به الإنسان مباشرة الحجر إنما بواسطة، وتقبيل ذلك الشيء، فقد استلم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمحجن وقبله، هذه المرتبة الثالثة.
- المرتبة الرابعة: الإشارة إليه وهذا في الطواف فقط.
ولم يُنقل عنه إشارة في غير الطواف، وبالتالي لا يثبت شيء من هذا في غير الطواف، فلا التقبيل، ولا المسح باليد، ولا المسح بعصا، ولا الإشارة مشروعة في غير الطواف. وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه حرص الصحابة على بيان أن ما يفعلونه إنما هو مؤتسون به بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومقتدون بهديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليسوا محدثين مبتدعين ولو كان لأحدهم سنة متبعة كعمر، فإن عمر له سنة متبعة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ، وَعُمَر»[سنن الترمذي (3662)] لكن ليس على وجه الاستقلال وإنما تبع لهديه صلوات الله وسلامه عليه.
اللهم تبعنا آثار نبيك، وارزقنا السير على نهجه، ولزوم سنته، والحشر في زمرته، ومرافقته في الجنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.