يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور.
عن عائشة ـ رَضِي الله عنها ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيهِ أمرُنا فَهُوَ رَدٌّ».
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
إتقان التشريع وكماله:
هذا الحديث حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ هو أصلٌ من أصول التشريع وهو من الأحاديث العظام التي تبين إتقان هذه الشريعة وكمالها وأن الأمر فيها لله ـ عز وجل ـ في الأمر والنهي وفي الطلب وفي سائر الشأن.
قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» من أحدث أي اخترع أو أتى بشيءٍ ليس عليه أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمره هو ما جاء به من الشرع والدين، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ» أي من اخترع وابتكر وأتى بشيءٍ على خلاف ما هو عليه عمله ودينه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك الرواية الأخرى رواية مسلم «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيهِ أمرُنا» يعني أتى بفعل ظاهر أو باطن على خلاف ما عليه أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلاف ما عليه طريقته وسنته «فَهُوَ رَدٌّ» ومعنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ «فَهُوَ رَدٌّ» أي أنه مردودٌ على من أتى به.
والمردود يفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: عدم القبول والإثابة.
الفائدة الثانية: عدم الصحة والإجزاء.
فلا تبرأ به الذمة، ولا يقبل عند الله ـ عز وجل ـ بالإثابة والأجر، وهذا في كل الأعمال التي يعملها الناس سواءً كان ذلك فيما يتعلق بالعبادات أو كان ذلك فيما يتعلق بالمعاملات التي تجري بين الناس مما بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكمًا، فالعبادات موقوفة على ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العمل ولهذا قال: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي»[صحيح البخاري (631)] فمن صلى على غير صلاته، على غير طريقة صلاته فهو مردودٌ عليه.
شرط في كل الأعمال أن تعمل على وفاق السنة والشرع:
وقال في الحج: «خذوا عنِّي مناسِكَكم»[صحيح مسلم (1297)] وهذا في كل العبادات بلا استثناء أنه لا بد أن تكون على وفق هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا فإنها مردودةٌ على من أتى بها فلا تجزئ ولا يثاب عليها فاعلها، ومعنى هذا أن فعله لذلك مما لا فائدة فيه بل إن كان إحداثًا فهو مما يدخل فيما نهى عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: «وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ» وفي رواية «وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ»[سنن أبي داود (4607)].
كل محدثة بدعة:
وبالتالي يترتب على الإحداث بالابتداع في الدين عدم القبول وعدم الإجزاء والإثم، وذلك أن الإحداث في الدين هو اختراع، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63] ، وأما إذا كان في المعاملات، فالمعاملات الأصل فيها الإباحة والحل، وأن الإنسان يأتي من المعاملات ما أذن الله ـ تعالى ـ به على وجه الإطلاق ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:275].
لكن ما بين الله حكمه في المعاملات إذا أتى به الإنسان على خلاف أمر الله وأمر رسوله فهو مردود، مثال ذلك: البيع بغرر وهو الجهالة التي تفضي إلى عدم العلم بالمبيع بحقيقته أو بمقداره أو بما يتعلق به مما لا بد من بيانه إذا باعه بيعًا فيه غرر أو كذب أو كتم في بيعه فهنا يكون البيع مردودًا لماذا؟ لأنه على خلاف أمرٍ لكن في أصل البيع الأصل الحل، والأصل الإباحة إلا أن يأتي الإنسان ما نهى عنه الله ورسوله في المعاملات فعند ذلك يكون ردًا.
والرد معناه أنه لا تصح هذه المعاملة ولا يترتب عليها آثارها ويأثم فاعلها، وبالتالي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيهِ أمرُنا فَهُوَ رَدٌّ». أو «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» شامل للعبادات والمعاملات، لكن الفرق أن العبادات جاء بيانها بالتفصيل الذي يستوعب كل أفعال العبادة لا بد أن تكون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الصلاة كان الصحابة يرقبون كيف يصلي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إنهم لاحظوا حركة لحيته وهو في الصلاة فاستدلوا بذلك على أنه يقرأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانوا يرقبون كل ما يكون منه، وقد قال لهم: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلِّي».
أما المعاملات، فالمعاملات بابها واسع ويحدث للناس فيها ما يحدث، وجاءت الشريعة فيها بأصول كلية، فالأصل فيها الحل، لكن إذا فعل الإنسان في المعاملات شيئًا خلاف ما جاءت به الشريعة فهو رد، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
واعرفوا أيها الأخوة أن الأحاديث في ضبط الأعمال جاءت على نحوين:
«مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» لضبط العمل الخارجي الظاهر، و«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لضبط العمل القلبي الباطن، وبهذا يستوعب ما جاء في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جميع ما يكون من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، فنسأل الله أن يصلح نياتنا وأن يرزقنا إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه في السر والعلن والظاهر والباطن، فالعمل لا يقبل إلا ما كان لله خالصًا «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وما كان على وفق هديه جاريًا، «مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى:21]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.