يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَينَاهُ، وَعَلا صَوتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيشٍ، يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» وَيَقُولُ: «بُعِثتُ أنَا والسَّاعَةُ كَهَاتَينِ» وَيَقْرِنُ بَيْنَ أُصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَيَقُولُ: «أمَّا بَعْدُ، فَإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله، وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَة ضَلالَةٌ» ثُمَّ يَقُولُ: «أنَا أوْلَى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِنْ نَفسِهِ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلأَهْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإلَيَّ وَعَلَيَّ» رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:-
صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا الحديث حديث جابر في صفة خطبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعظيم شفقته على أمته كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128] كان إذا خطب ـ صلى الله عليه وسلم ـ احْمَرَّتْ عَينَاهُ، وَعَلا صَوتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيشٍ، يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ».
هذه الصفات هي بيان حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبته على وجه العموم، فلا يحكي صفة خطبةً من خطبه بل هذا غالب ما يكون عليه حاله في نصحه لأمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ علو الصوت لتبليغ القول من حضره من أصحابه، واحمرار وجهه شدة انفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يقول، وأما اشتداد غضبه فهو عظم شفقته على أمته أن يخرجوا عن ما وجههم إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس هذا من الغضب المذموم الذي نهى عنه في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لا تَغْضَبْ»[صحيح البخاري (6116)] إنما هو شدة انفعاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبليغ رسالة ربه وأداء الأمانة التي ائتمن عليها صلى الله عليه وسلم.
التذكير بالآخرة في خطبه صلى الله عليه وسلم:
وكان من خطبه التذكير بالآخرة وهذا غالب ما يخطب به ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه يذكر الناس بالآخرة وذلك أن دواعي الغفلة عن الآخرة في حياة الناس كثيرة، فيغفل الناس عن الآخرة بمعاشهم في مآكلهم ومشاربهم وفي متعهم وملذاتهم وفي طلبهم لتلك الملذات فيشتغلون بذلك كله عن الآخرة ويظنون أن الحياة تدوم لهم وهي لا قرار لها وما أسرع زوالها، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «بُعثتُ أنا والسَّاعةُ كَهاتين» وأشار بإصبعه السبابة والتي تليها إشارة إلى قرب الآخرة وأنها دنت.
وقد أخبر الله بذلك في كتابه في مواضع عديدة ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء:1]، ويقول تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ [الأحزاب:63]، ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر:1]، الآيات في ذلك عديدة، والدلائل كثيرة دالة على قرب الساعة، وقرب الساعة من جهتين: إما من جهة الساعة الكبرى التي يقوم فيها الناس لرب العالمين، وتقوم فيها القيامة وتنتهي بها الدنيا ويفنى بها كل شيء، ويبعث الناس إلى ربهم ليجزيهم على أعمالهم.
بين قيام الساعة العامة والساعة الخاصة:
وهذه الساعة العامة، والساعة الخاصة هي ساعة كل واحد منا بموته، فإن قيامته الصغرة هي بأن يفارق الحياة؛ لأنه إذا فارق الحياة دخل في الآخرة، فالآخرة بالنسبة لكل واحد منا هي موته، فإن الآخرة اسمٌ لما بعد الموت، وذلك يبدأ بمفارقة روحه بدنه وبالتالي الساعة قريب.
الاستعداد للساعة:
والمؤمن يستعد ويتهيأ لهذه الساعة بما يسر به في لقاء ربه جل وعلا، وخير ما يفلح بها الناس وينجون به من معاطب الدنيا وأهوال الآخرة هو أن يقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله، ولذلك كان يذكر بسبيل النجاة فيقول: «فَإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله» فلا خير في قولٍ أعظم من قول الله عز وجل فهو خيرٌ في ذاته، خيرٌ في معناه، خيرٌ في تلاوته، خيرٌ في دلالته، خيرٌ فيما يهدي إليه، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9].
القرآن خير بكل الوجوه لمن أقبل عليه:
فهو خيرٌ من كل وجه لمن أقبل عليه تلاوةً وفهمًا وتدبرًا وعملاً وبقدر إقبال الإنسان على هذا الخير تكون نجاته، ثم يعطف على ذلك بيان القرآن وهو هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ «فَإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» لماذا؟ لأنه مبينٌ للقرآن ومترجمٌ له وموضحٌ لمعانيه ودلالته، وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيان هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما كان عليه من عمل قالت: "كان خلقه القرآن"صحيح مسلم (746) فكان يبين القرآن في كل أحواله صلوات الله وسلامه عليه.
خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم:
ولذلك كان هديه أكمل الهدي كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، وذلك لامتثاله ما في القرآن من هدايات ودلالات.
«وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا» وهي كل ما خرج عن صراطه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهديه، فكل ما خرج عن طريقه فهو شر، وذلك أنه محدث، والمحدث ابتداع في طريق الوصول إلى الله ـ عز وجل ـ وقد سد الله الطرق الموصلة إليه، ما في طريق يوصل إلى الله إلا طريقًا واحدًا، ليس ثمة طريق يوصل إلى الله إلا طريقٌ واحد وهو طريقه صلى الله عليه وسلم.
لا جنة إلا من طريقه صلى الله عليه وسلم:
ولذلك يوم القيامة لا يدخل الناس الجنة إلا باستفتاح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يأتي إلى باب الجنة فيستأذن في الدخول فيقول الخازن من؟ فيقول: أنا محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحدٍ قبلك، اللهم صلِّ على محمد، وبالتالي لا يمكن أن يدخل الإنسان الجنة إلا من طريقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولهذا قال: «وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا».
معنى الإحداث المراد هنا:
والإحداث هنا المقصود في العبادة والطاعة وليس المحدثات المتعلقة بدنيا الناس من تطور وصناعات وما أشبه ذلك، إنما في الطريق الموصل إلى الله.
«وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكل محدثة بدعة وَكُلَّ بِدْعَة ضَلالَةٌ» ضلالة يخرج بها الإنسان عن الهدى، فما يقابل الضلال هو الهدى، وقد جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأكمل الهدى وهو ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان من خطبه بيان عظيم شفقته على أهل الإيمان حتى في الدنيا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما فتح الله عليه ما فتح «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ» ليس له صلى الله عليه وسلم منه نصيب، «وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَىَّ وَعَلَيّ»[صحيح مسلم (867)] أي تحمله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمن لم يجد وفاءً من أهل الإسلام.
فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم إتباع سنته وأن يلزمنا هديه وأن يحشرنا في زمرته وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه وأن يرزقنا تمام محبته وإتباعه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.