يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يوم خَيبَر: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رجلًا يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيهِ، يُحبُّ اللهَ وَرَسولَهُ، ويُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أيُّهُمْ يُعْطَاهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: «أينَ عَلِيُّ ابنُ أَبي طالب؟» فقيلَ: يَا رسولَ الله، هُوَ يَشْتَكي عَيْنَيهِ. قَالَ: «فَأَرْسِلُوا إِلَيْه» فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرِىءَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يكُن بِهِ وَجَعٌ، فأَعْطاهُ الرَّايَةَ. فقَالَ عَليٌّ رضي الله عنه: يَا رَسُول اللهِ، أُقاتِلُهمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
هذا الحديث حديث سهل بن سعد الساعدي ـ رضي الله تعالى عنه ـ في خبر ما كان يوم خيبر، وهو في السنة السابعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
غزوة خيبر: خيبر شمال المدينة على قريب من سبعمائة أو نحو ذلك كيلو عن المدينة وكان فيها مزارع لليهود، وقد نزلوها بعد أن أجلاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نقضوا العهد واستمر أذاهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فغزاهم وكانوا في حصن وامتنعوا من المسلمين زمنًا فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه مبشرًا ببشارتين عظيمتين إحداهما عامة والأخرى خاصة.
تسارع الصحابة لنيل البشارة:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله".
فالبشارة الأولى: أنه يحصل لهم الفتح والغلبة على هذا العدو الذي جاءوا لكف شره.
والبشارة الثانية: لهذا الرجل خاصة وهو شهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بأن الله يحبه أنه يحب الله ورسوله، فبات الناس تلك الليلة أي الصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ يتأملون أن ينالوا هذه الفضيلة لا لأجل الإمارة والتقدم، ولكن لأجل تحصيل هذا الفضل, وهو شهادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحامل هذه الراية بمحبة الله ورسوله وحصول هذا الخير على يديه بالفتح الذي ينتظره أهل الإسلام.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في اليوم الثاني وقد غدا الصحابة يرجون أن ينالوا هذه البشارة، كلهم يرجو أن يعطاها حتى أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: ما تشرفت للإمارة يومًا إلا في هذا اليوم لأجل إدراك هذه الفضيلة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أين علي بن أبي طالب؟ وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان قد تخلف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول الأمر في غزوة خيبر لأجل ما أصاب عينه من الرمد الذي لم يتمكن معه من الخروج، لكن لما مشى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجد علي في نفسه حرجًا وضيقًا أن يتخلف عن رسول الله فخرج وهو أرمد ـ رضي الله تعالى عنه ـ رجاء يدرك ما يكون من الخير في هذه الغزوة فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أين علي بن أبي طالب سأل عنه وكان غائبًا ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقيل: أنه يشتكي عينيه أي ما ألم به من الرمد والأذى فدعا به ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبصق في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع، وهذا من آيات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن آياته ومعجزاته في هذا الحديث خبره عما يكون في المستقبل من الفتح, وأيضًا ما حصل من شفاء علي بن أبي طالب ببركة ريقه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ برأ كأن لم يكن به وجع وأعطاه الراية، رغم أنه كان من أبعد ما يكون أن يأخذها لما به من مانع.
الفضائل هبات ومنن:
وهذا يدلك على أن الفضائل هبات وعطايا ومنن يتفضل الله ـ تعالى ـ بها على عباده، فليس كل من سعى إلى شيء حصله، وليس كل من رغب في شيء أدركه، ولو حال فيما ترى من الأسباب بلوغ الغايات فالله ـ عز وجل ـ يزللها ويبلغك إياها إذا شاء أن يعطيك إياها لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وإلا أبعد من يكون طامعًا في الراية علي في هذا الموقع لما كان في عينيه من الرمد.
نصائح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقادة الجيوش:
ولذلك سأل عنه لم يكن حاضرًا ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما غدا كمن غدا من الصحابة يأمل أن يأخذها، فأعطاه الراية ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم قال: على ماذا أقاتلهم؟ وفي رواية أقاتلهم على أن يكونوا مثلنا يعني على أن يسلموا فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: انفذ على رسلك يعني أمضي بالجيش على مهل وأنات فالرِّسل هو التأني والتمهل لأجل ألا يتعب ولا يتعب من معه، فإذا نزلت بساحتهم يعني بساحة اليهود في خيبر فأدعوهم إلى الإسلام أي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأعلمهم بحق الله فيه أي بما يجب عليهم بحق الله تعالى من هذا الدين من الصلاة ونحو ذلك من الشرائع التي يطلبون بها وقد بينها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلمها الصحابة مضى رضي الله تعالى عنه.
فضيلة هداية الناس:
ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبهه إلى فضيلة ما هو فيه من عمل وما عليه أصحابه من العمل في جهادهم ودعوتهم لغيرهم قال: «فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا» هداية في هذه الصورة هي الانتقال من الكفر للإسلام وهذا أعظم الهدايات وأجلها خير لك من حمر النعم يعني خير لك من أنفس الأموال وحمر النعم تطلق على العالي من المال وعلى الشريف مما يملكه الناس وليس المقصود بهذا النعم بذاتها إنما المقصود الشريف من الأموال وهذا فيه بيان عظيم الفضل لمن دعا إلى هدى، وأن من دل غيره إلى خير كان له من الأجر أن الله تعالى يعطيه ما هو أفضل من أعظم مكاسب الدنيا، أعظم مكاسب الدنيا في ذلك الزمان حمر النعم وهي الإبل أعلى وأشرف أموال العرب.
واليوم يقاس على هذا أشرف أموال الناس، فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا فينتقل من الكفر إلى الإسلام أو من الضلالة إلى الهدى حتى ولو لم يكن كفرًا، بل كان انتقالا من المعصية إلى الطاعة فهو داخل في عموم لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم.
هذا الحديث فيه فوائد عظيمة ومعاني جليلة:
من أعظمها: بيان فضل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ وبيان حرص الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وبيان فضل علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ ولكن ينبغي أن يعلم أن الفضيلة الخاصة لا تقتضي التفضيل العام، فالأمة مجمعة على أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ فثبوت الفضيلة في موقع أو في باب من الأبواب، لا يلزم منه أن يكون الأفضل من كل الأبواب.
فالفضيلة أو الفضل الذي يتضمن السبق لا يستفاد من حديث واحد فقد فضل الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأنه أول من يكسى يوم القيامة مع أنه دون نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفضل، فنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلق ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فثبوت فضيلة خاصة لا يستلزم السبق في كل الفضائل وثمة معاني أخرى.
أسال الله أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يعلمنا التأويل وأن يرزقنا الفقه في الدين والعمل بالتنزيل وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد.