نقل الإمام النووي –رحمه الله- تعالى في كتابه رياض الصالحين في باب التعاون على البر والتقوى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟» قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنتَ؟ قَالَ: «رَسُول الله»، فرفعت إِلَيْه امرأةٌ صبيًا، فَقَالَتْ: ألِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أجْرٌ». رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين أما بعد..
هذا الحديث حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قصة هؤلاء الجمع من الناس حيث إن النبي –صلى الله عليه وسلم- لقي ركبًا بالروحاء، الركب هم الذين يركبون الإبل وهم في الغالب دون العشرة يطلق على ما دون العشرة ممن يركبون الإبل ركبًا.
تعريف المسلم نفسه بدينه:
والروحاء منزلة بين مكة والمدينة، ولم يبين ابن عباس متى كان هذا في أي عام، فسألهم النبي –صلى الله عليه وسلم- لما لقيهم من القوم؟ يعني من أنتم؟ وهذا للاستعلام ومعرفة حال هؤلاء الجمع الذين لقيهم –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: المسلمين فعرفوا أنفسهم بدينهم لا بقبيلتهم ولا بعوائلهم ولا ببلدانهم بل بدينهم الذي يجتمعون فيه مع أهل الإسلام إنما المؤمنون إخوة.
فلما سألهم النبي –صلى الله عليه وسلم- من القوم؟ فقالوا: المسلمون ردوا عليه السؤال من أنت؟ يستعلمون من هو فقال: رسول الله وهذا وصفه المطابق لما وصفه الله تعالى به كما قال تعالى: محمد رسول الله وهو أشرف أوصافه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يوجد وصف أكمل من وصفه بعبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
السؤال عن أحكام الشرع:
فلما علموا أنه رسول الله رفعت امرأة صبيًا أي: طفلًا صغيرًا ولا يتبين من الحديث: أهو قد بلغ سن التمييز أو لم يبلغ سن التمييز؟ لأنه مرفوع والمرفوع قد يكون مميزًا ست، سبع، ثمان سنوات وقد يكون دون ذلك رضيع أو ما دون التمييز ما دون السبع من السنوات.
فقالت: ألهذا حج؟ يعني أيجزئ أن أحج عن هذا أو أحج بهذا فقال –صلى الله عليه وسلم-: نعم ولكِ أجر نعم له حج ولكِ أجر وأجركِ في إعانتك على كسب الحسنات والصالحات، وتولي أمره في هذا النسك العظيم وهذه العبادة الجليلة فيما لا يقدر عليه الصغير من رمي الجمار ونحو ذلك من الأعمال التي قد يعجز عنها.
من أعان على طاعة كان له أجر:
فقال –صلى الله عليه وسلم-: «ولكِ أجر» لها أجر إعانتها على العمل الصالح وعلى أيضًا تنشئته في عبادة الله وطاعته، فإنها ما فعلت ذلك إلا حرصًا منها على إكساب الأجر وأن ينشأ في طاعة الله والنشء من صغرهم على طاعة الله يدرك نفعه الصغير إذا كبر، ويدرك نفعه والداه بصلاح ذريتهم وأولادهم ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مُروا أولادَكمْ بالصلاةِ، و همْ أبناءُ سبعِ سنينَ، و اضربُوهم عليها و همْ أبناءُ عشرِ سنينَ»[سنن أبي داود (495)].
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
ومنها: أن أشرف ما ينتسب إليه الإنسان هو دينه الذي يتعبد الله تعالى به حيث لما سألهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من القوم؟ قالوا: المسلمون وهذا بيان لا يتضمن تزكية لأن الإسلام وصف يتصف به كل من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا يتضمن إثبات ذكاء أكثر من أنه يدين بدين الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله تعالى من الناس سواه.
وفيه أيضًا أن من سأل إنسانًا عن شيء، فلا عجب أن يسأل عن مثل ما سأل، فإنهم سألوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أنت؟ فبين لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- من هو بقوله: رسول الله.
وفيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بين لهم ما ينفعهم من وصفه، فلم يقل محمد لاحتمال أن يشتبه بغيره أو ابن عبد المطلب أو نحو ذلك، بين لهم الوصف الذي ينتفعون به وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولذلك المرأة رفعت مباشرة صبيًا فقالت: ألهذا حج.
وفيه أن وصف الإنسان نفسه بما فيه من الخصال الحسنة إذا لم يكن فخرًا وخيلاء، فلا حرج عليه فيه وليس ذلك من الكبر، فمثلا لو كان الإنسان حافظًا للقرآن فبين ذلك لمصلحة من غير فخر ولا كبر فإنه لا يذم على ذلك، وكذلك سائر الأوصاف الحميدة كأن يقول: أنا كبير القوم، أنا صاحب الوجاهة في هذا المحل أو ما أشبه ذلك في الأوصاف التي يقولها لا على وجه التمدح والعلو والفخر، إنما على وجه البيان والوصف لحقيقة الأمر فهذا لا حرج فيه وليس من التزكية المذمومة والمنهي عنها في قوله: ﴿فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[النجم: 32].
فهؤلاء قالوا: نحن المسلمون، والنبي –صلى الله عليه وسلم- لما سئل قال: أنا رسول الله، وفيه المبادرة إلى السؤال عما يحتاج الإنسان إليه، فإن هذه المرأة بادرت الرسول –صلى الله عليه وسلم- بالسؤال عما كانت تحتاج إليه.
أهمية سؤال العالم:
وينبغي للإنسان إذا وفقه الله فلقي عالما وعنده إشكال أو عنده سؤال يحتاج فيه إلى بيان ألا يسَوِّفَ وألا يؤخر، فإنها لم تشتغل بشيء قبل أن تسأل النبي –صلى الله عليه وسلم- عن ابنها أو عن الصبي الذي معها أله حج أم لا؟
وفيه المبادرة إلى الإجابة والتشجيع على العمل الصالح، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- بادر بالإجابة وبين لها فضيلة هذا العمل الذي سألت عنه حيث قال لها: ولكِ أجر.
وفيه أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عن كل ما أشكل عليه كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 43] وإن من سأل وعنده علم متوثق منه ينبغي أن يبادر إلى الإجابة، وألا يعطل الناس عن إجابتهم فيما يحتاجون إليه من سؤال، وفيه من الفوائد أن حج الصغير صحيح حيث إن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: نعم ولكِ أجر.
حج الصبي:
وحج الصغير على نوعين؛ إما أن يكون مميزًا فيكلف من الأعمال ما يطيق من النية وغيرها، ويناب عنه فيما لا يطيق كالرمي كما جاء في حديث جابر: "حججنا ومعنا النساء والصبيان فلبينا عنهم ورمينا عنهم"[مسند أحمد (14370)، وضعف محققو المسند إسناده]. أي عن الصغار فما عجز عنه الصغير من العمل الصالح يناب عنه في الحج أو في العمرة ونحو ذلك.
وأما القسم الثاني من كان دون ذلك من كان دون التمييز أو لا يستطيع أن يأتي بالأعمال فهنا يناب عنه وإن كان ذلك في النية بأن ينوي عنه الحج.
لكن هنا مسألة وهي هل يصح أن يأمر ولي الصغيرِ الصغيرَ أن يحج عن غيره بمعنى أن يقول لأبنائه الصغار أنت حج عن أبي وأنت حج عن أمي من الأموات وأنت حج عن جدي وهلم جر؟
الجواب لا لأنه تصرف في غير المصلحة لهم وفيه تكليف لهم بما لم يتحملوه فحج الصغير لا يكون إلا عنه وأما عن غيره فإنه لا يناب عنه في هذا، ولهذا ما يفعله بعض الناس من أنه يأمر أولاده الصغار بأن ينووا عن غيرهم من أمواته هذا لا دليل عليه وهو تصرف فيهم بما هو خارج عن الأحسن، إذ الأحسن أن يكون الحج لهم وفيه دليل لما ذهب إليه جمهور العلماء من أن حج الصغير يصح منه لكنه لا يجزئه وهذا محل إجماع.
ومعنى لا يجزئه يعني لابد أن يأتي بحج آخر لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أيُّما صبيٍّ حُجَّ به فإذا بلغ فعليه حجَّةٌ أخرَى»[السنن الكبرى للبيهقي (8613)].
هذه بعض المسائل المتعلقة بهذا الحديث والفوائد، نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.