إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرُ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيَّاً مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ شَهادَةَ مُقِرٍ يَرْجُو النَّجاةَ مِنَ النَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محُمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إلىَ يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوُا اللهَ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾الحج: 1- 2 .
أَيُّها النَّاسُ عِبادَ اللهِ, إِنَّ الإيمانَ بِاليَوْمِ الآخِرِ مِنْ أُصُولِ الإيمانِ الَّتي لَا يَسْتَقِرُّ إيمانُ أَحَدٍ وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا بِهِ، وَالإيمانُ بِاليَوْمِ الآخِرِ هُوَ أَنْ تُؤْمِنَ بِما أَخْبَرَ اللهُ تعَالىَ بِهِ في كِتابِهِ، وَما أَخْبَرَ بِهِ نَبِيَّهَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سُنَّتِهِ مِمَّا يَكُوُنُ بَعْدَ الموْتِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الإخْبارُ بِما جَعَلَهُ اللهُ تَعالىَ إِشارَةً وَعَلامَةً عَلَىَ السَّاعَةِ قَبْلَ نُزوُلِها كَما قالَ تَعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾الزخرف: 66 ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾محمد: 18 ، السَّاعَةُ في كِتابِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- ذَكَرَها اللهُ في مَواضِعَ عَديدَةٍ، وَأَخْبَرَ باقْتِرابِها، وَأَمَرَ بِالاسْتِعْدادِ لَها؛ قَالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾القمر: 1 َوقَالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾الأنبياء: 1 وَقالَ –سُبْحانَهُ وَتعالىَ-: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾الشورى: 17 .
فاتَّقُوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، فإِنَّ ﴿السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا﴾الحج: 7 قَالَ جَلَّ في عُلاهُ في بيانِ تَغْييبِ عِلْمِ السَّاعَةِ عَنِ الخَلْقِ: ﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾الزُّخْرُف: 85 وقالَ –جَلَّ وَعَلا-: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾الأحزاب: 63 .
أَيُّها النَّاسُ عِبادَ اللهُ, إِنَّ النَّبِيَّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَخْبَرَ في سُنَّتِهِ بِآياتٍ وَعَلاماتٍ، وَأَشْراطٍ وَدَلائِلَ عَلَىَ اقْتِرابِ السَّاعَةِ ودُنُوِّها، وَهَذِهِ العلاماتُ الَّتِي جاءَ بِها الخَبَرُ في الكِتابِ وَالسُّنَّةِ مِنْها ما هُوُ قَدْ حَصَلَ وَيَتَكَرَّرُ، وَمِنْها ما لا يَكوُنُ إِلَّا مَرَّةً واحِدَةَ، مِنْها عَلاماتٌ صُغْرَىَ، وَمِنْها عَلاماتٌ كُبْرَىَ، وَالمُؤْمِنونَ مِنْها مُشْفِقُوُنَ لِيَقِيِنِهِمْ بِأَنَّها وَاقِعَةٌ لا رَيْبَ فِيها.
فاتَّقوُا الله عِبادَ اللهَ وَبادِروُا إِلَى الاسْتِعْدادِ لِهَذِهِ السَّاعَةِ، بِالعِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ، وَتَزَوَّدُوا بِالصَّالِحاتِ فَقَدْ أَمَركُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾البقرة: 197 .
أَيُّها المُؤْمِنونَ, إِنَّ الِإخْبارَ بالعلاماتِ الَّتي بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، يُفيِدُ صِدْقَ ما أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ، فَيَزْدادُ اليَقينُ بِخَبَرِهِ عَنْ هَذِهِ السَّاعَةِ العَظِيمَةِ الَّتي يَقُوُمُ فيها النَّاسَ لِرَبِّ العالمينَ، وَيُفيدُ أَيْضًا أَنْ يَنْفِي الإِنْسانُ عَنْ نَفْسِهِ الغَفْلَةِ، فَعِنْدَما يَرْقُبُ بِعَيْنِهِ وَقَلْبِهِ وَيُشاهِدُ العلاماتِ الَّتي تَدُلُّ عَلَىَ قُرْبِ السَّاعَةِ وَدُنُوِّها يَسْتَيْقِظُ مِنَ الغَفْلَةِ الَّتي تُطْبِقُ عَلَىَ القُلُوبِ فَتُعْمِي البَصائِرَ وَيَسْتَحْوِذُ الشَّيطْانُ عَلَىَ الِإنْسانِ فَيُنْسيِهِ ذِكْرَ الرَّحمنِ، فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ وَآمِنوُا بِما أَخْبَركُمْ بِهِ رَسوُلَ اللهِ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شَأْنِ السَّاعَةِ، وَفي شَأْنِ كُلِّ ما أَخْبَرَكُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ الغَيْبِ.
قالَ النبي –صلى الله عليه وسلم-: «بُعِثْتُ أَنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ»صحيح البخاري (5301)، وصحيح مسلم (2950) وهذا من َأوَّلُ علاماتِ السَّاعَةِ ظُهورًا، وَهِيَ علامةٌ صُغْرَىَ وَقَدْ أَخْبَرَ بَها النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَ بِها القُرْآنُ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾القمر: 1 وقالَ النَّبيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بُعِثْتُ أَنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ» يَعْني: وَقِيامُ القيامةِ وَأَشارَ بِإصْبِعِهِ الوُسْطىَ وَالسَّبَابَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علاماتٍ كثيرةً تكونُ بينَ يدَيِ الساعةِ مِنْها؛ خروجُ الدَّجَّالِينَ فَقَدْ جَاءَ في الصَّحيحَيْنِ أنَّهُ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى يُبْعَثَ دَجّالُونَ كَذّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنَّه رَسولُ اللَّهِ»صحيح البخاري (3609)، وصحيح مسلم (7) فَمِنْ عَلاماتِ السَّاعَةِ كَثْرَةُ الدَّجَلِ وَأَهْلِهِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ وَيَكْمُلُ بِخُروُجِ الدَّجَّالِ وَهُوَ مِنَ الآياتِ الكُبْرَىَ الَّتيِ تَكُوُنُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ.
ومِنْ عَلاماتِ السَّاعَةِ؛ أَنَّ نارًا تَخْرُجُ في الحِجازِ تُضِيءُ لهَا أَعْناقُ الِإبِلِ بِبُصْرىَ أَيْ بُصَرَيَ الشَّامِ وَقَدْ جَاءَ الخَبَرُ عَنْها في الصَّحيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالىَ عَنْهُ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى تَخْرُجَ نارٌ مِن أرْضِ الحِجازِ تُضِيءُ أعْناقَ الإبِلِ ببُصْرى»صحيح البخاري (7118)، وصحيح مسلم (2902) . وَهَذِهِ النَّارُ قَدْ وَقَعَتْ فِعْلًا في عامِ أَرْبَعِةٍ وَخَمْسِينَ وَسِتمائَةٍ مِنَ الهِجْرَةِ أَيْ في القَرْنِ السَّابِعِ الِهجْرِيِّ، وَبُصْرَيَ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ وهِيَ مَدِينَةُ حوُران.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَلاماتِ السَّاعَةِ انِْحسارُ الفُراتِ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يَقْتَتَلُ النَّاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ في الصَّحيِحَيْنِ مِنْ حَديثِ أَبي هُرَيْرَةَ قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُوشِكُ الفُراتُ أنْ يَحْسِرَ عن كَنْزٍ مِن ذَهَبٍ، فمَن حَضَرَهُ فلا يَأْخُذْ منه شيئًا»صحيح البخاري (7119) ، قال –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رِوايةِ مُسْلِمٍ «لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى يَحْسِرَ الفُراتُ عن جَبَلٍ مِن ذَهَبٍ، يَقْتَتِلُ النّاسُ عليه، فيُقْتَلُ مِن كُلِّ مِئَةٍ، تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ، ويقولُ كُلُّ رَجُلٍ منهمْ: لَعَلِّي أكُونُ أنا الذي أنْجُو»صحيح مسلم (2894 (.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ وَرَاقِبُوا ما أَخْبَرَ بِهِ النَّبيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ العلاماتِ، فَقَدْ أَخْبَرَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِبْرِيلُ عِنْدَما سَأَلَهُ عَنْ أَماراتِها قالَ: «أنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها، وأَنْ تَرى الحُفاةَ العُراةَ العالَةَ رِعاءَ الشّاءِ يَتَطاوَلُونَ في البُنْيانِ»صحيح مسلم (8) ، وَذاكَ لإِقْبالِهمْ عَلَىَ الشَّهَواتِ وَالملَذَّاتِ وإِقْبالِهمْ عَلَىَ الدُّنْيا، وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الآخِرَةِ، وَإِنَّ مِنْ عَلاماتِ السَّاعَةِ الصُّغْرَىَ الَّتِي أَخْبَرَ بِها النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الفُحْشُ وَالتَّفُحُّشُ، وَقَطيعَةُ الرَّحِمِ، وَتَخْوِينُ الأَمينِ وَائْتمانُ الخائِنِ»الطبراني في الأوسط (1356) مِنْ حَديثِ أَنَسٍ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5894) كما جَاءَ ذَلكَ في مُسْنَدِ الإمامِ أَحْمَدُ في حَديثَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو(6514).
وَمِنْ علاماتِ السَّاعَةِ الصُّغْرَىَ أَنْ يَتْرُكَ النَّاسُ إِفْشاءَ السَّلامِ، فَقَدْ قالَ –صَلَّىَ اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ من أشراطِ الساعةِ إذا كانت التَّحِيَّةُ على المعرفَةِ»مسند أحمد (3664)، وَحَسَّنَهُ مُحقِّقُ المسْنَدِ أَيْ إذا كانَ السَّلامُ لا يَكوُنُ إلَّا لمَنْ يَعْرِفُهُ الإنسانُ، كُلُّ هَذِهِ مِنَ العلاماتِ وَغَيْرِها كَثيرُ أَخْبَرَ بِها –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِها وَنوُقِنُ أَنَّ ما قَالَهُ حَقٌ، وَأَنَّ ما قالَهُ وَاقِعٌ أَدْركْنا ذَلِكَ أَوْ لمَ ْنُدْركْهُ فَإِنَّهُ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَىَ.
وَمِنْ عَلاماتِ السَّاعةِ الصُّغْرَىَ ما أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ حالِ جِزيرَةِ العَرَبِ، فَإِنَّهُ قالَ: «لا تقومُ السّاعةُ حتّى تعودَ أرضُ العربِ مُروجًا وأنْهارًا»صحيح مسلم (157) وَاللهُ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
وَمِنْ علاماتِ السَّاعَةِ أَنَّ النَّبيَّ –صَلَّىَ الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَر كما في صَحيحِ الإمامِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ «لا تَقُومُ السّاعَةُ حتّى يَكْثُرَ الهَرْجُ قالوا: وما الهَرْجُ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: القَتْلُ القَتْلُ»صحيح البخاري (1036)، وصحيح مسلم (157) أَيْ يَكْثُرُ القَتْلُ في النَّاسِ فَلا يَدْري القاتِلُ فيما قَتَلَ، وَلا المقْتوُلُ فِيمَ قُتِلَ، اللهُمَّ أَعِذْنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ.
وَإِنَّ مِنْ علاماتِ السَّاعَةِ أَنْ يَتقارَبَ الزَّمانُ كما أَخْبَرَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتكُوُنُ السُّنَّةُ كَالأُسْبُوعِ وَتَظْهَرُ الفِتَنُ وَقَدْ قَالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بَيانِ المبادَرَةِ إلىَ العَمَلَ الصَّالحِ وَاسْتِباقِ هِذِهِ العلاماتِ قالِ: «بادِرُوا بالأعْمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا»صحيح مسلم (118) . فاللَّهُمَّ أَعِذْنا مِنَ الفِتَنِ، اللَّهُمَّ أَعِذْنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ.
أَقوُلُ هذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي وَلَكُمْ فاسْتغَفِروُهُ إِنَهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيِرًا طَيِّبًا مُباركاً فِيِهِ، حِمْدًا يُرْضِيِهِ وِأِشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرَيِكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾الحشر: 18 .
أَيُّها المؤْمِنونَ عِبادَ اللهِ, إنَّ النَّفْعَ مِنْ ذِكْرِ عَلاماتِ السَّاعَةِ الصُّغْرَىَ وَالكُبْرَىَ أَنْ يُبادِرَ الِإنْسانُ إلَى العَمِلِ الصَّالحِ وَأَنْ يَعُوُدَ إِلَىَ رُشْدِهِ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنِ العِصْيانِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ الاسْتِغْفارِ وِالأَوْبَةِ إِلَى العَزيزِ الغَفَّارِ، فَبادِرُوا إِلَى الأَعْمالِ الصَّالحَةِ وأَكْثِروُا مِنَ التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفارِ، فَقَدْ ظَهَرَتْ كَثِيرٌ مِنَ العلاماتِ الصُّغْرَىَ الَّتي تَكُوُنُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، ولما كانتِ أَوَّلُ العلاماتِ الصُّغْرَىَ ظُهُورًا خُروُجَ بَعْثَةِ النَّبيِّ –صَلَّىَ اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ أَوَّلَ عَلاماتِ السَّاعَةِ الكُبْرَىَ خُروُجُ المهْدِيِّ كَما أَخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ جاءَ خَبَرُ المهْدِيْ في أَحادِيثَ مُتواتِرَةً عَنِ النَّبِيِّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «لا تَذْهَبُ الدنيا، ولا تَنْقَضِي، حتى يَمْلِكَ رجلٌ من أهل بيتي، يُواطِئُ اسمُه اسْمِي»سنن أبي داودَ (4282)، وسنن الترمذي (2230)، وَقالَ: هَذاَ حَديِثٌ حَسنٌ صحيح وهذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ يُدْعَىَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَذاكَ لا يَكوُنُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ والعلاماتِ الكُبْرَىَ، فإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بخروُجِ الدَّجَّالِ وَيَقْتَرِنُ بِنُزوُلِ عَيسَىَ بْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَشْرِ آياتٍ كُبْرَىَ في حَديثِ واحِدٍ وَهُوَ ما رواهُ مُسْلِمٌ في صحيحهِ مِنْ حَديثِ حُذَيْفَةَ قالَ رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ: «اطَّلَعَ النبيُّ ﷺعَلَيْنا وَنَحْنُ نَتَذاكَرُ، فَقالَ: ما تَذاكَرُونَ؟ قالوا: نَذْكُرُ السّاعَةَ، قالَ: إنَّها لَنْ تَقُومَ حتّى تَرَوْنَ قَبْلَها عَشْرَ آياتٍ» هذا خَبَرُ مَنْ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَىَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «فَذَكَرَ، الدُّخانَ، والدَّجّالَ، والدّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وَنُزُولَ عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ﷺ، وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بجَزِيرَةِ العَرَبِ، وَآخِرُ ذلكَ نارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ النّاسَ إلى مَحْشَرِهِمْ»صحيح مسلم(2901).
هكذا بَيَّنَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيانًا وَاضِحًا لجُمْلَةٍ مِنَ الآياتِ الكُبْرَىَ، وَمِنْ أَوائِلِها خُروُجُ الدَّجَّالِ أَعاذَنا اللهُ مِنْ فَتْنَتِهِ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، نَعوُذُ باللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، نَعوُذُ باللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ فإِنَّهُ «شر غائب يُنتظر»الترمذي(2306), وَقَالَ: حسنٌ غَريبٌ كَما قَالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَعْظَمُ الفِتَِن الَّتي تَكوُنُ في هَذِهِ الدُّنْيا لِبَني آدمَ قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صَحيحِ الإِمامِ مُسْلِمْ مِنْ حَديثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنِ «ما بيْنَ خَلْقِ آدَمَ إلى قِيامِ السّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجّالِ»صَحيحُ مُسْلِمٍ (2946(.
فَنَعوُذُ باللهِ مِنْ فِتْنَتِهِ وَإِذا خَرَجَ الدَّجالُ عاثَ في الأَرْضِ فَسادًا، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعالَى عَيَسَىَ بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قالَ تعالَى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾النساء: 157 وقد قال تعالى في شأنه: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾النساء: 158 فَأَنْزَلَ اللُه عَيَسَىَ بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما أَخْبَرَ النَّبيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ مُقْسِمًا فَفي الصَّحيحَيْنِ قالَ: «والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ»صحيح مسلم (155) فَيَعيشُ النَّاسُ في رَخاءٍ وَطِيبِ عَيْشٍ كما قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ أَرْبَعينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفَّى وَيُصَلِّيِ عَلَيْهِ المسْلِموُنَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ بِعلاماتٍ أُخْرَىَ مِنْ عَلاماتِ السَّاعَةِ؛ وَهِيَ: رَفْعُ القُرْآن وَذَاكَ مِنْ أَعْظَمِ ما يَنْزِلُ بالنَّاسِ في حوادثِ آخرِ الزَّمانِ أَنْ يَضْعُفَ الإِسْلامُ وَيَنْتَشِرَ الجَهْلُ، ويُعْرِضُ النَّاسُ عَنِ الذِّكْرِ وَالقُرْآنِ فَيُْرفَعُ القُرآنُ كَما قالَ النَّبِيُّ –صَلَّىَ اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ-: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ»سنن ابن ماجه (4049) وَصَحَّحَهُ الأَلْبانُيُّ في صَحيحِ الجامعِ (8077) أَيْ يَذْهَبُ وَيَضْمَحِلُّ ويزولُ كما يَذْهَبُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتىَّ لا يُدْرَىَ لا صِيامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا نُسُكٌ ولا صَدَقَةٌ.
قالَ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ تَعَطُّلِ العَمَلِ بِالشَّريِعَةِ وَالقُرآنِ، وَيُسْرَى عَلَىَ كِتابِ اللِه في لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَىَ في الأَرْضِ مِنْهُ إلَّا لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، فَتَخْلُوُ الَمصاحِفُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- وَتَخْوَىَ الصُّدوُرُ مِنَ القُرْآنِ، ذاكَ في آخِرِ الزَّمانِ عِنْدَما يَظْهَرُ الشِّرْكُ وَالكُفْرُ وَالإِعْراضُ عْنْ دينِ اللهِ –عِزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُ –صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ آياتٍ عَظيمَةٍ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَىَ مُطالَعَتهِا وَمَعْرِفَتِها، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يَزْدادُ بِهِ الإِيمانُ وَتَزوُلُ بِهِ الغَفْلَةُ وَيَسْتَيْقِظُ الإِنْسانُ لما يكوُنُ مِنْ حوادثِ ما يُسْتَقَبَلُ مِنَ الزَّمانِ.
الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، وَارْزُقْنا صِدْقَ الإيمانِ بِكَ، تَوَفَّنا مُسْلِمينَ، وَأَلحَقْنا بِالصَّالحينَ، وَلاَ تُزغِْ قُلوبَنا يا ذا الجَلالِ والإِكْرامِ، الَّلهُمَّ لا تُزغْ قلوبَنا بَعْدَ إذْ هَديْتنا وَهَبْ لنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، اللهُمَّ آمِنَّا في أوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتنا وَوُلاةَ أُمورِنا، واجْعَلْ وِلايَتَنا فيمَنْ خافَكَ واتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أمْرِنا خادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّريفيْنِ وَوَليَّ عَهْدهِ إلى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى سَدِّدْهُمْ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ، الَّلهُمَّ وَفِّقْهُمْ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَأَعِنْهُمْ عَلَى كُلِّ بِرٍّ، وَانْصُرْهُمْ عَلَىَ مَنْ عاداهُمْ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُموُرِ المسْلمينَ إلىَ تَحْكيمِ كِتابِكَ وَالعَمَلِ بِسُنَّتِكَ، اجْعَلْهُمْ رَحْمَةً لِرعاياهُمْ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
ربَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ، رَبَّنا أَجِرْنا مِنَ الفِتَنِ وَأَعِذْنا مِنْها ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ.
رَبَّنا مَنْ أَرادَ بِنا وَبالمسْلمينَ شَرًّا أَوْ فِتْنِةً فَرُدَّ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، الَّلهُمَّ انْصُرْنا عَلَىَ مَنْ بَغَىَ عَليْنا، اللَّهُمَّ آثِرْنا ولَا تُؤْثِرْ عليْنا، الَّلهُمَّ اهْدِنا وَيَسِّرِ الهُدَىَ لَنا، الَّلهُمَّ اجْعَلْنا لَكَ ذاكرينَ شاكرينَ، راغبينَ راهبينَ، أَوَّاهينَ مُنيبينَ، الَّلهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبتنا وَثَبَّتْ حُجَّتَنا وَاغْفِرْ زَلَّتنا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.