بِسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلاةِ، وَأَنَّها لا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِها، حَكَىَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَىَ» فِيما رَواهُ البُخارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الخِطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا في تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلاةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوالٍ:
الأَوَّلُ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ وَلَوْ طالَ الزَّمَنُ ما لَمْ يَصْرِفْها إِلَى غَيْرِها، وَهَذا هُوَ مَذْهَبُ مالِكٍ قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في الكافِي ص (39): "وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِ مالِكٍ أَنَّ المصَلِّى إِذَا قامَ إِلَى صَلاتِهِ أَوْ قَصَدَ المسْجِدَ لَها فَهَوَ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ غابَتْ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَصْرِفَها إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ". وَالمنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ يُشْبِهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَنْوِي قالَ: خُرُوجَهُ مِنْ بَيْتِهِ نِيَّةً، وَقالَ: إِذا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَهُوَ نِيَّتُهُ، أَفَتَراهُ كَبَّرَ، وَهُوَ لا يَنْوِي الصَّلاةَ؟! قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَعْدَ ذِكْرِهِ ما نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ في مَجْمُوعِ الفَتاوَى (22/229): "وَلِهَذا قالَ أَكابِرُ أَصْحابِهِ كالخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ: يُجْزِئُهُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ مِنْ حِينِ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلاةِ".
الثَّانِي: يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ ما لَمْ يَفْسَخْها، وَهَذا مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ وَالحَنابِلَةِ.
الثَّالِثُ: لا يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقارِنَةً لِلتَّكْبِيرَةِ، وَهَذا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهَذا القَوْلُ فِيهِ مِنَ العُسْرِ وَالمشَقَّةِ وَالصُّعُوبَةِ ما لا يَخْفَى، وَقالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّهُ لا يَجُوزُ فَصْلُ النِّيَّةِ عَنِ التَّكْبِيرَةِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً لا فَصْلَ بَيْنَهُما أَصْلًا لا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ.
وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ لِي مِنْ هَذِهِ الأَقْوالِ ما ذَهَبَ إِلَيْهِ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ مِنْ جَوازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الإِحْرامِ وَلَوْ طالَ الزَّمَنُ ما لَمْ يَصْرِفْها إِلَى غَيْرِها أَوْ يَفْسَخْها؛ إِذِ المقْصُودُ
مِنَ النِّيَّةِ تَمْييزُ عَمَلٍ عَنْ عَمَلٍ، وَهَذا حاصِلٌ بِالنِّيَّةِ المتَقَدِّمَةِ إِذا لَمْ تُفْسَخْ وَلَمْ تُصْرَفْ فَإِنَّها تَكُونُ مُسْتَصْحَبَةً حُكْمًا ما دامَ لَمْ يَنْوِ قَطْعَها. وَلِذَلِكَ لَوْ ذَهِلَ عَنِ النِّيَّةِ أَوْ غابَتْ عَنْهُ في أَثْناءِ الصَّلاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ في صِحِّتِها، وَقَدْ حَكَى الإِجْماعَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ في شَرْحِ العُمْدَةِ ص (387) وَهَذا القَوْلُ وَهُوَ جَوازُ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الِإحْرامِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ هُوَ ظاهِرٌ اخْتِيارِ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
أخوكم/
خالد بن عبد الله المصلح
14/09/1424هـ