بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الصُّورَةُ المَسؤولُ عَنْها مِنَ الوَتْرِ بثَلاثِ رَكَعاتٍ مَوصولَةٍ بتَشَهُّدَيْنِ وتَسليمَةٍ واحِدَةٍ هُوَ مَذهَبُ الإمامِ أبي حَنيفَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فلا يَصِحُّ عِنْدَهُ الوَتْرُ إلَّا بهذِهِ الصُّورَةِ، وقَدْ خالَفَهُ في ذَلِكَ جُمهورُ العُلَماءِ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ ومَنْ بَعْدَهُم كمالِكٍ والشافِعيِّ وأحمدَ.
وقَدِ استَدلَّ - رَحِمَهُ اللهُ - بأدلَّةٍ، أوضَحُها ما رَواهُ مُحمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظيُّ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - «نَهَى عَنِ البُتَيْراءِ» وكَذَلِكَ ما جاءَ عَنْ أبي سَعيدٍ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - : «نَهَى عَنِ البُتَيْراءِ؛ أنْ يُصلِّيَ الرَّجُلُ واحِدَةً يُوتِرُ بِها» وقَدْ ضَعَّفَ الأوَّلَ النَّوويُّ في الخُلاصَةِ فقالَ: حَديثُ مُحمدِ بنِ كَعبٍ القُرَظيِّ في النَّهْيِ عَنِ البُتيراءِ ضَعيفٌ مُرسَلٌ، وقالَ ابنُ حَزْمٍ في المُحلَّى (3/48): "ولم يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنِ البُتيراءِ"، وقالَ عَنْهُ ابنُ القَيِّمِ في إعلامِ المُوقِّعينَ (2/269): "وهَذا حَديثٌ لا يُعرَفُ لَهُ إسنادٌ ولا صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ وليسَ في شَيءٍ مِنْ كُتُبِ الحَديثِ المُعتَمَدِ عَلَيْهِ" وعَلَى أنَّهُ لو صَحَّ لَما تَعيَّنَتْ دَلالَتُهُ عَلَى ما ذَهبَ إلَيْهِ، قالَ ابنُ القَيِّمِ - رَحِمَهُ اللهُ - (2/269): "ولَو صَحَّ، فالبُتيراءُ صِفَةٌ للصَّلاةِ الَّتي قَدْ بُتِرَ رُكوعُها وسَجودُها فلم يَطمَئنَّ فِيها" وقالَ ابنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البارِي (2/486): "مَعَ احتِمالِ أنْ يَكونَ المُرادُ بالبُتيراءِ أنْ يُؤتَى بواحِدَةٍ مُفردةٍ ليسَ قَبْلَها شَيءٌ وهُوَ أعَمُّ أنْ يَكونَ مَعَ الوَصْلِ أوِ الفَصْلِ". وجُمهورُ العُلَماءِ يَرَونَ جَوازَ الوَتْرِ بثَلاثٍ بسَلامٍ واحِدٍ كما دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وكَرِهَ بَعضُهُمُ الوَصْلَ مَعَ الجُلوسِ للثانيَةِ للتَّشهُّدِ لِما فِيهِ مِنَ التَّشبُّهِ بالمَغرِبِ المَنْهيِّ عَنْهُ؛ ففي حَديثِ أبي هُرَيرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - : «لا تُوتِروا بثَلاثٍ فتُشبَّهوا بالمَغرِبِ، أَوتِروا بخَمْسٍ أو سَبْعٍ» رَواهُ الحاكِمُ وابنُ حِبَّانَ في صَحيحِهِما، وقَدْ رَواهُ الدَّارقُطْنيُّ أيضًا وقالَ: إسنادُهُ كُلُّهُم ثِقاتٌ، وقالَ عَنْهُ العِراقيُّ: إسنادُهُ صَحيحٌ فهَذا النَّهْيُ مَحمولٌ عَلَى الوَترِ بثَلاثٍ بتَشهُّدَينِ أو أنَّ النَّهْيَ للكَراهيَةِ، والأخيرُ عِنْدِي أقرَبُ؛ لأنَّ النَّهْيَ عَنِ العَددِ فهَذا المَنصوصُ عَلَيْهِ، والَّذي صَرَفَ النَّهْيُ إلى الكَراهَةِ ما جاءَ مِنَ النُّصوصِ دالًّا عَلَى جَوازِها إمَّا نَصًّا أو ظاهِرًا.
أمَّا ما ذَكرْتَ مِنَ القُنوتِ قَبْلَ الرُّكوعِ فهَذا أمْرٌ واسِعٌ قَدْ جاءَ بِهِ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابِعينَ، وكَذَلِكَ التَّكبيرُ قَبْلَ الشُّروعِ في القُنوتِ قَبْلَ الرُّكوعِ ذَكَرَهُ ابنُ أبي شَيبَةَ في مُصنَّفِهِ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ بسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وقَدْ أنكَرَهُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ قالَ في المُدوَّنَةِ (1/192): "الرَّجُلُ يَقنُتُ في الصُّبْحِ قَبْلَ الرُّكوعِ ولا يُكبِّرُ للقُنوتِ"، وكَذا الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ قالَ في الأُمِّ (1/168): "فهذِهِ تَكبيرَةٌ زائدَةٌ في الصَّلاةِ لم تَثبُتْ بأصلٍ ولا قِياسٍ" والَّذي يَظهَرُ أنَّهُ غَيْرُ مَشروعٍ؛ إذِ الأصلُ في العِباداتِ التَّوقيفُ.
أمَّا ما سَألْتَ عَنْهُ مِنَ الاستِمرارِ مَعَ مَنْ يُصلِّي الوَتْرَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتي ذَكرْتَ مَعَ العِلمِ أنَّكُم شافِعيَّةٌ وتَرغَبُونَ الصَّلاةَ خَلْفَ أهلِ السُّنَّةِ، فاعلَمْ بارَكَ اللهُ فِيكَ أنَّ الحَنفيَّةَ مِنْ أهلِ السُّنَّةِ ولِلَّهِ الحَمْدُ حَتَّى ما تَقدَّمَ مِنَ اختِلافٍ، فإنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ مَذهَبُ أهلِ السُّنةِ. فالَّذي أراهُ أنْ تَستَمِرَّ في الصَّلاةِ مَعَهُم وتُتابِعُهُم فِيما يَفعَلونَ لا حَرَجَ عَلَيْكَ في ذَلِكَ، بَلْ هُوَ الواجِبُ فإنَّ هَذا مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحابَةِ ومَنْ بَعْدَهُم، فإنَّهُ لم يَزلْ بَعضُهُم يَأتَمُّ ببَعْضٍ مَعَ اختِلافِهِم حَتَّى فِيما يَتعلَّقُ بالصَّلاةِ نَفْسِها في شُروطِها وواجِباتِها. قالَ ابنُ قُدامَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - في المُغنِي (3/23): "فإنَّهُ إذا صَلَّى خَلْفَ إمامٍ يُصلِّي الثَّلاثَ بتَسليمٍ واحِدٍ تابَعَهُ لِئَلَّا يُخالِفَ إمامَهُ، وبِهِ قالَ مالِكٌ، وقَدْ قالَ أحمدُ في رِوايَةِ أبي داودَ فيمَنْ يُوتِرُ فيُسلِّمُ مِنَ الثِّنتَينِ فيَكرَهُونَهُ -يَعنِي أهلَ المَسجِدِ- قال: لو صارَ إلى ما يَريدُونَ، يَعنِي أنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ لا تَضُرُّ مَوافَقتُهُ إيَّاهُم فِيهِ". وقَدْ قالَ أحمدُ - رَحِمَهُ اللهُ - فيمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَرَى القُنوتَ في صَلاةِ الفَجْرِ مُطلَقًا أنْ يُتابِعَهُ ويُؤمِّنَ في دُعائِهِ. وقالَ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - في الاختياراتِ ص (70): "وإذا فَعَلَ الإمامُ ما يَسوغُ فِيهِ الاجتِهادُ وتَبِعَهُ المَأمومُ فِيهِ، مِثْلَ القُنوتِ في الفَجْرِ ووَصْلِ الوِتْرِ، وإذا ائتَمَّ مَنْ يَرَى القُنوتَ بمَنْ لا يَراهُ تَبِعَهُ في تَرْكِهِ". وقَدْ أجابَ رَحِمَهُ اللهُ في الفَتاوَى الكُبرَى في مَسألَةٍ قَريبةٍ مَنْ سُؤالِكَ فقالَ (2/240-241) في خِتامِ جَوابِهِ: "والصَّوابُ أنَّ الإمامَ إذا فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا جاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وأوتَرَ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ المَذكُورَةِ يَتبَعُهُ المَأمومُ في ذَلِكَ".
واللهُ تَعالَى أعلَمُ.
أخُوكُم/
خالِد بنُ عَبْدِ اللهِ المُصلِح
18/09/1424هـ