الحَمْدُ لِلهِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِجَابَةً عَنْ سُؤَالِكَ نَقُولُ وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوفِيقُ:
الأُخُوَّةُ فِي الأَصْلِ مَعْنًى يَثْبُتُ لِلْمُشَارِكِ لَكَ فِي الوِلَادَةِ. وَقَدْ جَرَى اسْتِعْمَالُها فِي كُلِّ مُشَارِكٍ لِغيْرِهِ فِي القَبِيلِةِ، أَوِ الصَّنْعَةِ، أَوِ الدِّينِ، أَوِ المُعَامَلَةِ، أَوِ المَوَدَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ المَعَانِي وَالمُنَاسَبَاتِ، وَلمَّا كَانَتِ الأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ أَقْوَى هَذِهِ الوَشَائِجِ وَالصِّلَاتِ جَعَلَهَا اللهُ تَعَالَى مَحْصُورَةً فِي المُؤْمِنِينَ دُوْنَ غَيْرِهِمْ، فَقَال تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ +++ [الحجرات: 10]--- .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الأُمِّ +++ 6/40 --- : "جَعَلَ الأُخُوَّةَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَقَطَعَ ذَلِكَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَالكَافِرِينَ".
وَهَذِهِ الأُخُوَّةُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا لَأَهْلِ الإِيمَانِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ +++ [التوبة: 11] --- .
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيةَ فِي شَرْحِ العُمْدَةِ +++ ص73 --- : "فَعَلَّقَ الأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْعَِدِمُ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَمَنْ لَم يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِأَخٍ فِي الدِّينِ، وَمَنْ لَيْسَ بِأَخٍ فِي الدِّينِ فَهُوَ كَافِرٌ".
وَمَا جَاءَ مِنْ إِضَافَةِ الأُخُوَّةِ لِغَيْرِ المُسْلِمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} +++ [الأعراف: 65] --- ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} +++ [الأعراف: 73] --- ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} +++ [الأعراف: 85] ---، وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ، فَهِيَ إِمَّا أُخُوَّةُ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي مَسَاقِ الخَبَرِ لَا لإِنْشَاءِ حُكْمٍ، بِخِلَافِ الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ فَقَدْ رَتَّبَ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُه عَلَيْهَا أَحْكَامًا وَحُقُوقًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} +++ [الحجرات: 10] --- ، وَكَمَا جَاءَ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِي +++ (6591) --- وُمُسْلِمٌ +++ (2568) --- مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ».+++[صحيح البخاري(2442)، ومسلم(32 - (2564))]--- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ.
فَالَّذِي أَرَى أَنَّه لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الأُخُوَّةِ فِي حَقِّ الكُفَّارِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَطَعَ ذَلِكَ بَيْنَ المؤْمِنِينَ وَالكَافِرِينَ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الإِطْلَاقِ تَلْبِيسًا يُفْضِي إِلَى اخْتِلَالِ الأَحْكَامِ، وَاخْتِلاطِ الحُقُوقِ، وَإِضْعَافِ أُخُوَّةِ الإِيمَانِ.
أَمَّا إِذَا قَُيِّدَ إِطْلَاقُ الأُخُوَّةِ بِالنَّسَبِ أَوِ السَّبَبِ، وَظَهَرَ ذَلِكَ بِمَا لَا اشْتِبَاهَ فِيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الآيَاتِ فَإِنَّه لَا بَأْسَ بِإِطْلاقِهَا حِينَئِذٍ؛ لِتَبَيُّنِهَا وَتَمَيُّزِهَا عَنْ أُخَوَّةِ الدِّينِ وَمَا تَسْتَوْجِبُهُ مِنْ حُقُوقٍ وَوَاجِبَاتٍ.
وَمِثْلُ هَذَا فِي الحُكْمِ مَا لَو كَانَ المَقْصُودُ مُجَرَّدَ النِّدَاءِ كَمَا يَسْتَعْمِلُهُ البَعْضُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الوَاجِبُ الاحْتِيَاطُ فِي مَوَاطِنِ الاشْتِبَاهِ، أَمَّا إِطْلَاقُ أُخَوَّةِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ اسْتَنَادًا إِلَى الأُخُوَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ فَهَذَا مِمَّا لا يَرْتَابُ عَالِمٌ بِالشَّرْعِ وَمُدْرِكٌ لِمَآلَاتِ الأَقْوَالِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الحَنِيفَ لَمْ يُقِمْ لِهَذِهِ الوَشِيجَةِ وَالصِّلَةِ اعْتِبَارًا خَاصًّا مَعَ كَوْنِهَا قَائِمَةً وَقْتَ التَّشْرِيعِ، بَلْ كَانَ خِطَابُهُ العَامُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَالكُفَّارَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} +++ [البقرة: 21] ---، أو {يَا بَنِي آدَمَ} +++ [الأعراف: 26] --- .
كَمَا أَنَّهُ مَهْمَا فَتَّشَ الإِنْسَانُ فِي دَوَاوِينِ الإِسْلَامِ وَكُتُبِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الفُنُونِ وَتَنَوُّعِهَا مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَغَيْرِهِ فَلَا إِخَالُهُ يَظْفَرُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ المِلَّةِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ يُسْتَأْنَسُ بِهَا فِي تَجْوِيزِ إِطْلَاقِ الأُخُوَّةِ عَلَى الكُفَّارِ اسْتِنَادًا إِلَى الأُخُوَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ.
وَإِنَّ مِمَّا يَدُلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِطْلَاقِ تَسْمِيَةِ الكُفَّارِ إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَنْ فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ +++ [ص: 28] ---، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ +++ [الجاثية: 21] ---.
وَإِنَّ مِمَّا يُؤَكِّدُ تَحْرِيمَ إِطْلَاقِ تَسْمِيَةِ الكُفَّارِ إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ دُعَاةَ الإِفْسَادِ وَالشَّرِّ جَعَلُوا الدَّعْوَةِ إِلَى الأُخُوَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ وَسَيلَةً وَسُلَّمًا إِلَى تَهْوِينِ شَأْنِ الكُفْرِ، وَقَبُولِ أَهْلِهِ وَمَوَدَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، كَمَا أَنَّهُمْ اتَّخَذُوهَا أَدَاةً لَتَرْوِيجِ كَثِيرٍ مِنَ الأَفْكَارِ المُنْحَرِفَةِ وَالمَشَارِيعِ المَشْبُوهَةِ، وَمِنَ القَوَاعِدِ المتَّفَقِ عَلَيْهَا أَنَّ مَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَى مُحَرَّمٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ، فَكَيْفَ وَالكُلُّ مُحَرَّمٌ؟
وَفِي الخِتَام؛ يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ الأُخُوَّةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَالكَافِرِينَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِهْدَارُ حُقُوقِ المَعْصُومِينَ الكُفَّارِ، وَلَا يُسَوِّغُ انْتِهَاكَهَا، فَحُقُوقُهُمْ مَحْفُوظَةٌ وَحُرُمَاتُهُمْ مَصُونَةٌ مَا دَامَتْ لَهُمْ عِصْمَةُ الإِسْلَامِ بِالذِّمَّةِ أَوِ العَهْدِ أَوِ الأَمَانِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
أخوكم/
خالد بن عبد الله المصلح
03/01/1425هـ