الحَمْدُ للهِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ مَسْأَلَةَ حُجِّيَّةِ أَقْوَالِ ابنِ عُمَرَ وَأَفْعَالِهِ هِيَ أَحَدُ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ حُجِّيَّةِ قَولِ الصَّحَابِيِّ، وَقَدْ تَنَاوَلَ أَهْلُ العِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ هَذِهِ المَسْأَلَةَ بِالبَحْثِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْرَدَهَا بِمُؤلَّفٍ خَاصٍّ، وَمُلَخَّصُ القَولِ فِيهَا أَنَّ قَولَ الصَّحَابِيِّ لَهُ أَحْوَالٌ:
الحَالُ الأُولَى: أَنْ يَكُونَ قَولُ الصَّحَابِيِّ مُخَالِفًا لِنَصٍّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي الأُمِّ (7/280) : مَا كَانَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَوجُودَيْنِ فَالعُذْرُ عَمَّنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (1/284) : وَمَتَى كَانَتِ السُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَتِ الحُجَّةُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا فِيمَا يُخَالِفُهَا بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ.
الحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ قَولُ الصَّحَابِي قولًا اشْتَهَرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ وَالأُصُولِيِّينَ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى (1/284) : إِذَا اشْتَهَرَ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ كَانَ إِقَرَارًا عَلَى القَوْلِ، فَقَدْ يُقَالُ: هَذَا إِجْمَاعٌ إِقْرَارِيٌّ، إِذَا عُرِفَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى بَاطِلٍ.
الحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَولُ الصَّحَابِيِّ قَولًا لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْلَمْ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ، فَهَذِهِ الحَالُ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَقْوَالٍ، أَصَحُّهَا أَنَّه حُجَّةٌ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
الحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ قَولُ الصَّحَابِيِّ قَولًا خَالَفَهُ فِيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَلَيْسَ قَولُ أَحَدِهِمْ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا مَحِلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ.
أَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَالنَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ وَلَا يُسْقِطُ حُجِّيَّتَهَا فِي الجُمْلَةِ؛ إِذِ الوَاجِبُ رَدُّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَمَا وَرَدَ فِي سُؤَالِكَ مِنْ رَفْعِ ابنِ عُمَرَ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَاتِ العِيدِ وَالجَنَازَةِ فَهُو مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الحَالِ الأُولَى وَالحَالِ الرَّابِعَةِ.
أَمَّا انْدِرَاجُهُ فِي الحَالِ الأُولَى فَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ لَا يَرَى الرَّفْعَ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثَي أَبِي هُرَيْرَةَ وابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، قَالَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ تَكْبِيرَةٍ. وَزَادَ ابنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ لَا يَعُودُ.
وَقَدْ أَجَابَ مَنْ يَرَى الرَّفْعَ بِأَنَّهُمَا حَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ. وَبِهَذَا يَخْرُجَانِ عَنِ الحَالِ الأُولَى.
أَمَّا اندِرَاجُهُ فِي الحَالِ الرَّابِعَةِ فَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ ابنُ مَسْعُودٍ وَابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى عَدَمِ الرَّفْعِ إِلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى، كَمَا حَكَى ابنُ حَزْمٍ.
وَهُنَا مَسْأَلَةٌ يَجْدُرُ التَّنَبُّهُ لَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُجِّيَّةِ أَفْعَالِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مَنْ وَرَدَ السُّؤَالُ عَنْهُ، وَهِيَ أَنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِاجْتِهَادَاتٍ خَالَفَهُ فِيهَا أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُدْخِلُ المَاءَ فِي عَيْنَيْهِ فِي الوُضُوءِ، وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَتَحَرَّى أَنْ يَسِيرَ فِي مَوَاضِعِ سَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْزِلُ مَواضِعَ مَنْزِلِهِ، وَيَتَوَضَّأُ فِي السَّفَرِ حَيْثُ رَآهُ يَتَوَضَّأُ، وَيَصُبُّ فَضْلَ مَائِهِ عَلَى شَجَرَةٍ صَبَّ عَلَيْهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي الحَالَ الرَّابِعَةِ، لَمْ يَسْتَحِبَّهُ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ، عَمَلًا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ وَعَدَمِ فِعْلِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.