الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّصْوِيرِ الْفُوتُوغْرَافِيِّ لِذَوَاتَتْ الْأَرْوَاحِ هَلْ هُوَ مِنْ التَّصْوِيرِ الَّذِي جَاءَتْ النُّصُوصُ بِتَحْرِيمِهِ أَمْ لَا ؟ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّصْوِيرَ الْفُوتُوغْرَافِيَّ حَرَامٌ لَا يُبَاحُ إلَّا مَا دَعَتْ إلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوْ اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَكَذَلِكَ شَيْخُنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَازٍ وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّصْوِيرَ الْفُوتُوغْرَافِيَّ مُبَاحٌ جَائِزٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيمَا جَاءَتْ النُّصُوصُ بِتَحْرِيمِهِ، وَبِهَذَا قَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّدُ الْعُثَيْمِينَ وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ نَجِيبٍ الْمُطَيعِيُّ.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِالْعُمُومَاتِ الَّتِي فِيهَا تَحْرِيمُ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّ التَّصْوِيرَ الْفُوتُوغْرَافِيَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّصْوِيرِ الْأُخْرَى الَّتِي تُنْقَشُ بِالْيَدِ فَيَدْخُلُ فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:« أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ » وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُأخرجه البخاري (5950)، ومسلم (2109)، وَغَيْرِهِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ لِلتَّصْوِيرِ.
وَقَدْ أَجَابَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ وَالْإِبَاحَةِ: بِأَنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُحَرَّمَةَ لِلتَّصْوِيرِ إنَّمَا حَرَّمَتْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُضَاهَاةِ خَلْقِ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ بِالتَّخْطِيطِ وَالتَّشْكِيلِ، وَالتَّصْوِيرُ الْفُوتُوغْرَافِيُّ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَصْوِيرٌ لِصُنْعِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، وَلَيْسَ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ التَّصْوِيرَ الْفُوتُوغْرَافِيَّ لَا يَدْخُلُ فِيمَا جَاءَتْ النُّصُوصُ بِتَحْرِيمِهِ مِنْ التَّصْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُضَاهَاةَ فِيهِ لِخَلْقِ اللَّهِ، إنَّمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ صُورَةُ خَلْقِ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا عَمَلٌ مِنْ تَسْوِيَةٍ أَوْ تَشْكِيلٍ، فَهِيَ نَظِيرُ الْمِرْآةِ وَالصُّورَةِ فِي الْمَاءِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ: فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:« لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ »أخرجه البخاري (3225)، ومسلم (2106) وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ:« وَلَا صُورَةَ تَمَاثِيلَ ». وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(3225) عَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ:« وَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جِبْرِيلَ أَنْ يَأْتِيَهُ وَفِيهِ قَالَ جِبْرِيلُ: إنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ »صحيح البخاري (5960).
وَهَذَا الَّذِي قَبْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحْرُمُ مِنْ الصُّوَرِ، أَمَّا مَا لَا يَحْرُمُ سَوَاءٌ كَانَ مُصَوَّرًا أَوْ مُجَسَّمًا كَلُعِبِ الْبَنَاتِ الصِّغَارِ وَالْمُمْتَهَنِ مِنْ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَقَرَّ لَعِبَ عَائِشَةَ فِي بَيْتِهِ،فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ:« كُنْت أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَيَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَرِرْنَ مِنْهُ، فَيَأْخُذُهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَيَرُدُّهُنَّ عَلَيَّ »أخرجه البخاري (6130)، ومسلم (2440)، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ الَّذِي يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ حَدَّثَهُ بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيُّ الَّذِي كَانَ فِي حِجْرِ مَيْمُونَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:« لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ »أخرجه البخاري (3226)، ومسلم (2106) قَالَ: فَمَرِضَ زَيْدٌ فَعَدْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ فِي بَيْتِهِ بِسِتْرٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَقُلْتُ لِعَبِيدِ اللَّهِ الْخَوْلَانِيِّ: أَلَمْ يُحَدِّثْنَا فِي التَّصْوِيرِ فَقَالَ: إلَّا رَقْمًا فِي ثَوْبٍ، أَلَا سَمِعْته، قُلْت: لَا، قَالَ: بَلْ قَدْ ذَكَرَهُ.
فَمَا كَانَ مِنْ الصُّوَرِ الْفُوتُوغْرَافِيَّةِ مُعَظَّمًا مَرْفُوعًا فَأَرَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْمُحَرَّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ، أَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مَحْفُوظًا فِي الرُّفُوفِ وَالْمَحَافِظِ وَشَبَهِهَا فَلَا أَرَى تَحْرِيمَ اقْتِنَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلذِّكْرَى أَوْ غَيْرِهَا، وَاَللَّهُ ـ تَعَالَى ـ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
أَمَّا التَّصْوِيرُ بِالْفِيدْيُو فَهُوَ مِثْلُ التَّصْوِيرِ الْفُوتُوغْرَافِيِّ مِنْ حَيْثُ الْاخْتِلَافُ فِي حُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِتَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ الْفُوتُوغْرَافِيِّ يُجِيزُونَ التَّصْوِيرَ بِالْفِيدْيُو، وَهُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ بِهِ نَقْلٌ لَا عَمَلَ لِلْإِنْسَانِ فِي تَشْكِيلِهِ أَوْ تَخْلِيقِهِ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمِرْآةِ وَنَحْوِهَا، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِلذِّكْرَى أَوْ لِغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَخُوكُمْ/ خَالِد الْمُصْلِح
21/09/1425هـ