الحَمْدُ لِلهِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
عِلْمُ العِلَلِ وَمَعْرِفَتُهَا مِنْ غَوَامِضِ العِلْمِ وَخَفِيِّهِ، فَهُوَ عِلْمٌ يَخْفَى عَلَى كَثِيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الحَدِيثِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مَهْدِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ: مَعْرِفَتُنَا بَهَذَا كَهَانَةٌ عِنْدَ الجَاهِلِ.
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ العِلَلِ أَكْثَرُ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَى أَحَادِيثِ الثِّقَاتِ أَي الأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرُهَا السَّلامَةُ وَالصِّحَّةُ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الحَدِيْثِ ص (112) : "وَإِنَّمَا يُعَلَّلُ الحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ لَيسَ لِلَجَرْحِ فِيْهَا مَدْخَلٌ، فَإِنَّ حَدِيثَ المَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَعِلَّةُ الحَدِيثِ تَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ الثِّقَاتِ أَنْ يُحَدِّثُوا بِحَدِيثٍ لَهُ عِلَّةٌ فَتَخْفَى عَلَيهِمْ عِلَّتُهُ، وَالحُجَّةُ فِيهِ عِندَنَا العِلْمُ وَالفَهْمُ وَالمَعْرِفَةُ".
أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ تَصْحِيحِ الحَدِيثِ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ النُّقَّادُ بِعِلَّةٍ لَمْ تَظْهَرْ لَكَ فَهَذَا نَهْجٌ غَيرُ سَدِيدٍ، قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي النُّكَتِ (2/ 711) : "وَهَذَا الفَنُّ أَغْمَضُ أَنْوَاعِ الحَدِيثِ وَأَدَقُّهَا مَسْلَكًا، وَلَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا مَنْ مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَى فَهْمًا غَايِصًا، وَاطِّلَاعًا حَاوِيًا، وَإِدْرَاكًا لِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ وَمَعْرِفَةً ثَاقِبَةً، وَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ إِلَّا أَفْرَادُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَحُذَّاقِهِمْ، وَإِلَيْهِمْ المَرْجِعُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا جَعَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَالاطِّلَاعِ عَلَى غَوَامِضِهِ دُونَ غَيرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُمَارِسْ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقْصُرْ عِبَارَةُ المُعَلِّلِ مِنْهُمْ فَلَا يُفْصِحْ بِمَا اسْتَقَرَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَرْجِيحِ إِحْدَى الرِّوَايَتَينِ عَلَى الأُخْرَى... فَمَتَى وَجَدْنَا حَدِيثًا قَدْ حَكَمَ إِمَامٌ مِنَ الأَئِمَّةِ المَرْجُوعِ إِلَيهِمْ بِتَعْلِيلِهِ فَالأَولَى اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا نَتَّبِعُهُ فِي تَصْحِيحِ الحَدِيثِ إِذَا صَحَّحَهُ..."، "وَهَذَا حَيْثُ لا يُوجَدُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ المُعَلِّلِ، وَحَيثُ يُصَرِّحُ بِإثْبَاتِ العِلَّةِ، فَأَمَّا إِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ صَحَّحَهُ فَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ يُوَجُّهُ النَّظَرُ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا".