الحَمْدُ للهِ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِجابَةً عَنْ سُؤالِكِ نَقُولُ وَبِاللهِ تَعالَى التَّوْفِيقُ:
اخْتَلَفَ أَهْلُ العَلْمِ رَحِمَهُمُ اللهُ في مَسْأَلَةِ قِراءَةِ الحائِضِ لِلقُرْآنِ عَلَى ثَلاثَةُ أَقْوالٍ في الجُمْلَةِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: جَوازُ قِراءَةِ القُرْآنِ لِلحائِضِ وَالنُّفَساءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّ المصْحَفَ، وَهَذا مَذْهَبُ الإِمامِ مالِكٍ، وَهُوَ رِوايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَبِهِ قالَ البُخارِيُّ وَدَاوُدَ وَابْنُ حَزْمٍ.
القَوْلُ الثَّانِي: جَوازُ قِراءَةِ الحائِضِ وَالنُّفَساءِ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ كالآيَةِ أَوِ الآيَتَيْنِ، وَقِيلَ: لا تُمْنَعُ مِمَّا دُونَ الآيَةِ.
القَوْلُ الثَّالِثُ: يَحْرُمُ عَلَى الحائِضِ وَالنُّفَساءِ قِراءَةُ شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ، وَهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ مِنَ الحَنَفِيِّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالحَنابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقالَ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلاءِ بِأَدِلَّةٍ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ القَوْلَ بِجَوازِ قِراءَةِ الحائِضِ وَالنُّفَساءِ لِلقُرْآنِ هُوَ أَقْرَبُ الأَقْوالِ لِلصَّوابِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كانَتِ الحائِضُ مَمْنُوعَةً مِنَ القِراءَةِ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيانًا وَاضِحًا يَنْقِلُهُ عَنْهُ الثِّقاتُ الأَثْباتُ كَما هُوَ الشَّأْنُ في مَنْعِ الحائِضِ مِنَ الصَّلاةِ وَالصِّيامِ، وَلَمْ يَقْتَصِرِ الأَمْرُ عَلَى حَدِيثٍ اتَّفَقَ الأَئِمَّةُ عَلَى تَضْعِيفِهِ، وَهُوَ ما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعاً، قالَ: «لَا تَقْرَأِ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ». فَقَدْ قالَ عَنْهُ الإِمامُ أَحْمَدُ لما سَأَلَهُ ابْنُهُ كَما نَقَلَ العُقَيْلِيُّ في الضُّعَفاءِ ص (90): "باطِلٌ، أَنْكَرَهُ إِسْماعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ". وَكَذا قالَ أَبُو حاتِمٍ فِيما نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُهُ في العِلَلِ (1/ 49). وَقَدْ قالَ عَنْهُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في الفَتاوَى (21/ 460): "وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفاقِ أَهْلِ المعْرِفَةِ بِالحَدِيثِ". وَقالَ عَنْهُ أَيْضًا في الفَتاوَى (26/ 191): "وَلَيْسَ لِهَذا أَصْلٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا حَدَثَ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلا عَنْ نافِعٍ وَلا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَصْحابُهُمُ المعْرُوفُونَ بِنَقْلِ السُّنَنِ عَنْهُمْ. وَقَدْ كانَ النِّساءُ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ كانَتِ القِراءَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِنَّ كالصَّلاةِ لَكانَ هَذا مِمَّا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ وَتَعَلَّمَهُ أُمَّهاتُ المؤْمِنِينَ، وَكانَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقُلُونَهُ إِلَى النَّاسِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقِلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ نَهْيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْعَلَ حَرامًا، مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الحَيْضِ في زَمَنِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ".
وَقَدْ أَجْمَلَ شَيْخُ الإِسْلامِ أَدِلَّةَ القائِلِينَ بِالجَوازِ بَعْدَ ذِكْرِ ضَعْفِ الحَدِيثِ، فَقالَ في مَجْمُوعِ الفَتاوَى (21/ 460): "وَمَعْلُومٌ أَنَّ النِّساءَ كُنَّ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ يَنْهاهُنَّ عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ، كَما لَمْ يَكُنْ يَنْهاهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ وَالدُّعاءِ، بَلْ أَمَرَ الحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ يَوْمَ العِيدِ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِ المسْلِمينَ، وَأَمَرَ الحائِضِ أَنْ تَقْضِيَ المناسِكَ كُلَّها إِلَّا الطَّوافَ بِالبَيْتِ: تُلِبيِّ وَهِيَ حائِضٌ وَكَذَلِكَ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المشاعِرِ".
أخوكم/
خالد بن عبد الله المصلح
13/09/1424هـ