الحَمدُ لِلَّهِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ.
أمَّا بَعْدُ:
فإجابَةً عَلَى سُؤالِكَ نَقولُ وباللهِ تَعالَى التَّوفيقُ:
ما يَتعَلَّقُ بفَضيلَةِ صِيامِ السِّتِّ: جُمهورُ العُلَماءِ عَلَى أنَّ صِيامَ سِتَّةِ أيَّامٍ بَعْدَ رَمَضانَ مِمَّا نَدَبَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وذَلِكَ فِيما رَواهُ الإمامُ مُسلِمٌ مِنْ حَديثِ أبي أيُّوبَ الأنصارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «مَنْ صامَ رَمَضانَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» ومَعنَى: «كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» يَعنِي: كصِيامِ السَّنَةِ، وذَلِكَ جاءَ في سُنَنِ ابنِ ماجَه وغَيْرِها: أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَيَّنَ أنَّ ثَلاثِينَ يَوْمًا مِنْ رَمَضانَ تَعدِلُ عَشَرةَ أشْهُرٍ، وسِتَّةَ أيَّامٍ تَعدِلُ ما بَقِيَ، فالحَسَنَةُ بعَشْرِ أمْثالِها، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أنَّ صِيامَ رَمَضانَ مَعَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ يَكونُ بِهِ السَّنَةُ، ففَضيلَةُ صِيامِ هذِهِ الأيَّامِ ثابِتَةٌ بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ.
وبَعْضُ أهلِ العِلمِ يُضَعِّفُ هَذَا الحَديثَ، ويَقولُ: إنَّهُ لم يَثبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِنْ فِعْلِهِ، فنَقولُ: لا يَلزَمُ في الأعْمالِ الصَّالحَةِ أنْ تَكونَ ثابِتَةً مِنْ فِعْلِهِ، فإذا ثَبتَتْ مِنْ قَوْلِهِ فالقَوْلُ كافٍ في إثْباتِ السُّنيَّةِ والمَشروعيَّةِ.
وقَدْ ذَهَبَ الإمامُ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - إلى أنَّهُ يُكرَهُ صِيامُ السِّتِّ؛ لأنَّهُ لم يَجِدْ عَلَيْهِ عَمَلَ أهلِ المَدينَةِ، لكِنَّ هَذَا القَوْلَ مُخالِفٌ لِما عَلَيْهِ الجَماهيرُ، ومُخالِفٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ حَديثُ أبِي أيُّوبَ الأنصارِيِّ، وما ذُكِرَ مِنْ أنَّ الحَديثَ في إسْنادِهِ ضَعْفٌ فهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أهلِ الحَديثِ، لكِنَّهُ في الحَقيقَةِ حَديثٌ في صَحيحِ الإمامِ مُسلِمٍ وهُوَ صَحيحٌ، وقَدْ جاءَ لَهُ ما يُتابِعُهُ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُسنِدُهُ وتُقوِّيهِ وتُعضِّدُهُ، فالحَديثُ ثابِتٌ في فَضيلَةِ صِيامِ السِّتِّ.
وصِيامُ السِّتِّ تَحصُلُ لكُلِّ مَنْ صَامَ سِتَّةَ أيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، سَواءً كانَتْ مُتَفرِّقَةً أو مُتَتابِعَةً، إلَّا أنَّ أهْلَ العِلمِ استَحَبُّوا أنْ تَكونَ مُواليَةً لصِيامِ رَمَضانَ بَعْدَ الفِطْرِ، يَعنِي: أنْ يَبْدَأَ صِيامَهُ مِنْ ثانِي يَوْمٍ مِنْ أيَّامِ الفِطْرِ حتَّى يتَحقَّقَ الإتْباعُ عَلَى أكمَلِ صُوَرِهِ، لأنَّهُ قالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ»، فالإتْباعُ في صُورَتِهِ التَّامَّةِ الكامِلَةِ، هُوَ أنْ يُواليَ الصِّيامَ مِنَ الثَّانِي والثَّالِثِ والرَّابِعِ والخامِسِ والسَّادِسِ والسَّابِعِ، فيَنتَهِي صِيامُهُ في يَوْمِ السَّابِعِ، لكِنْ لو فَرَّقَ فالأمْرُ في هَذَا واسِعٌ.
وقَدْ أشَرْتُ إلى أنَّ بَعْضَ أهلِ العِلمِ ضَعَّفَ هَذَا الحَديثَ لضَعْفِ بَعْضِ رِجالِهِ، لكِنِ الصَّحيحُ أنَّ الحَديثَ جاءَ لَهُ مُتابَعاتٌ، وقَدْ أخرَجَهُ الإمامُ مُسلِمٌ في صَحيحِهِ، ومَعْلومٌ أنَّ الحَديثَ الَّذِي في صَحيحِ الإمامِ مُسلِمٍ قَدْ جاوَزَ النَّقْدَ في قَوْلِ جَماهيرِ المُحدِّثينَ، وإنْ كانَ هُناكَ أحاديثَ منتقَدَةً في صَحيحِ الإمامِ مُسلِمٍ، فهَذَا لَهُ بَحْثٌ مُستَقِلٌّ، لكِنْ بِخُصوصِ هَذَا الحَديثِ: هَذَا الحَديثُ ما وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ نَقْدٍ ليْسَ مُستَقيمًا وليْسَ قائِمًا، بمَعنَى: أنَّ الحَديثَ جاءَ لَهُ مِنَ المُتابَعاتِ ما يَعضِّدُهُ، فالحَديثُ ثابِتٌ، وعَلَى هَذَا جَماهيرُ أهلِ العِلمِ.
ومَنْ رَأَى أنَّهُ لا يُشرَعُ الصِّيامُ فهَذَا قَوْلٌ، وقَدْ ذَكَرْتُ في كِلامِي في أَوَّلِ الحَلقَةِ أنَّ الإمامَ مالِكًا - رَحِمَهُ اللهُ - ذَهَبَ إلى هَذَا القَوْلِ اسْتِنادًا إلى أنَّهُ لم يَكُنْ عَلَيْهِ عَمَلُ أهلِ المَدينَةِ.
ولم يُنقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ صامَ، لكِنْ يَكفِي في ثُبوتِ السُّنَّةِ القَوْلُ، ولا يَلزَمُ أنْ يَكونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، فكَثيرٌ مِنَ الأُمُورِ تُنقَلُ بالقَوْلِ وبَعْضُها تُنقَلُ بالفِعْلِ، فالقَوْلُ والفِعْلُ كُلُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّتِي تَدخُلُ في قَوْلِهِ تَعالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحْزابُ:21]، ولا يَلزَمُ ثُبوتُ الفِعْلِ.
ويَبقَى ما يَتَعلَّقُ بتَتابُعِ هذِهِ الأيَّامِ قُلْنا: لا يَلزَمُ التَّتابُعُ، بَلْ يَصومُها مُتَفرِّقَةً.
وتَبْقَى مَسألَةُ القَضاءِ: هَلْ يُشتَرَطُ تَكْميلُ القَضاءِ، أي: تَكْميلُ الصِّيامِ قَبْلَ أنْ يَصُومَ السِّتَّ؟ هَذَا سُؤالٌ يَكثُرُ لا سِيَّما مِنَ النَّساءِ، والسَّبَبُ في ذَلِكَ: ما يَكونُ مِنْ عارِضٍ يُسبِّبُ فِطْرَهُنَّ بسَبَبِ الحَيْضِ، فقَدْ يَضيقُ عَلَيْها الشَّهْرُ، المُهَمُّ بغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الأسْبابِ، هذِهِ المَسألَةُ للعُلَماءِ فِيها قَوْلانِ، مَسألَةُ البَداءَةِ بالقَضاءِ قَبْلَ السِّتِّ: هَلْ يُشتَرطُ في حُصولِ فَضيلَةِ السِّتِّ أنْ يَفرُغَ مِنْ رَمَضانَ أَداءً وقَضاءً؟ أداءً لا شَكَّ، أمَّا قَضاءً فهذِهِ المَسألَةُ فِيها للعُلَماءِ قَوْلانِ:
فمِنْ أهلِ العِلمِ مَنْ قالَ: إنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَكونَ قَدْ فَرَغَ مِنْ رَمَضانَ كُلِّهِ لحَديثِ: «مَنْ صامَ رَمَضانَ»، ومَنْ كانَ عَلَيْهِ أيَّامٌ مِنْ رَمَضانَ فإنَّهُ لم يَصُمْ رَمَضانَ كامِلًا، والنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَدْ رَتَّبَ الفَضيلَةَ عَلَى صِيامِ رَمَضانَ ثُمَّ إتْباعِهِ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ. وعَلَى هَذَا؛ فإنَّهُ يَنبَغِي أنْ يَصومَ رَمَضانَ كامِلًا، فيَبدَأُ بالقَضاءِ ثُمَّ يَشرَعُ في السِّتِّ.
وقَدْ تَقولُ بَعْضُ الأَخَواتِ: أنا عِنْدِي عُذْرٌ لمُدَّةِ الشَّهْرِ كامِلًا، كأنْ تَكونَ نُفَساءَ مَثَلًا، ففي هذِهِ الحالِ كَيْفَ تَصنَعُ؟ عَلَى هَذَا القَوْلِ يَقولُونَ: تَصومُ القَضاءَ، ثُمَّ إذا فَرغَتْ مِنَ القَضاءِ تَأتِي بالسِّتِّ، ولو كانَتْ في ذي القِعدَةِ لأنَّها مَعذورةٌ بعَدَمِ تَمَكُّنِها مِنْ فِعْلِ هذِهِ السُّنَّةِ في شَوَّالٍ، لكَوْنِها اشتَغلَتْ بقَضاءِ ما عَلَيْها مِنَ الصِّيامِ، هَذَا هُوَ القَوْلُ الأَوَّلُ في المَسأَلَةِ.
-
والقَوْلُ الثَّانِي: أنَّهُ يَجوزُ البَداءَةُ بالسِّتِّ قَبْلَ القَضاءِ، وذَلِكَ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «مَنْ صامَ رَمَضانَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ»، وهَذَا قَدْ تَحقَّقَ لَهُ أنَّهُ صامَ رَمَضانَ، والَّذِي صامَ خَمْسًا وعِشْرينَ يَوْمًا مَثَلًا، وأفْطَرَ خَمْسَةَ أيَّامٍ لعُذْرٍ، ألَا يُسمَّى أنَّهُ صامَ رَمَضانَ؟ بَلى يُوصَفُ بأنَّهُ صامَ رَمَضانَ، والنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لم يَقُلْ: مَنْ صامَ رَمَضانَ كامِلًا، ولم يَقُلْ: مَنْ صامَ رَمَضانَ ولم يُبْقِ عَلَيْهِ مِنْهُ شَيءٌ، وإنَّما قالَ: «مَنْ صامَ رَمَضانَ»، وهَذَا يَتحَقَّقُ لكُلِّ مَنْ صامَ رَمَضانَ، ولو أفطَرَ في بَعْضِ أيَّامِهِ لعُذْرٍ فإنَّهُ يُدرِكُ هذِهِ الفَضيلَةَ، وعَلَى هَذَا فلا يَلزَمُ في حُصولِ فَضيلَةِ السِّتِّ أنْ يَصومَ القَضاءَ قَبْلَ ذَلِكَ.
والرَّاجِحُ في هذِهِ المَسألَةِ هُوَ القَوْلُ الثَّانِي، أنَّهُ تَحصُلُ الفَضيلَةُ لمَنْ صامَ السِّتَّ، ولو كانَ عَلَيْهِ قَضاءٌ، يَعنِي: ولو أخَّرَ القَضاءَ، وهَذَا هُوَ الأقرَبُ للصَّوابِ مِنْ هَذَيْنِ القَوْلَينِ، والمَسألَةُ مَحَلُّ خِلافٍ كما ذَكَرْتُ، والخِلافُ أصْلًا قَبْلَ هَذَا في مَسألَةِ: هَلْ يَجوزُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ القَضاءِ أو لا؟ هذِهِ المَسألَةُ هِيَ الأصْلُ ويتَفَرَّعُ عَلَيْها مَسألَةٌ أُخرَى، وهِيَ مَسألَةُ خُصوصِ صِيامِ السِّتِّ إذا قُلْنا بجَوازِ تَقدُّمِ التَّطَوُّعِ، كما هُوَ قَوْلُ الجُمهورِ: هَلْ يُشتَرطُ لحُصولِ الفَضيلَةِ القَضاءُ قَبْلَ السِّتِّ؟ فِيها قَوْلانِ، والصَّحيحُ أنَّهُ يَجوزُ أنْ يَصومَ السِّتَّ قَبْلَ القَضاءِ.
لكِنِّي أوَجِّهُ إخوانِي إلى أنَّهُ يَنبَغِي البَدْءُ بالقَضاءِ، وهَذَا هُوَ الأَوْلَى والأَحْسَنُ؛ لأنَّهُ أبْرَأُ للذِّمَّةِ وأسرَعُ في بَراءَتِها وألصَقُ في تَحقيقِ الفَضيلَةِ المَذكورَةِ في الحَديثِ.
فخُلاصَةُ الجَوابِ: أنَّهُ يَجوزُ أنْ يَبدَأَ بالسِّتِّ قَبْلَ القَضاءِ عَلَى الرَّاجِحِ مَنْ قَوْلَيْ أهلِ العِلمِ في مَسألَةِ حُصولِ فَضيلَةِ صِيامِ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ.