الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِجَابَةً عَنْ سُؤَالِك نَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْحَقِيقَةُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ لَا تُبِيحُهَا إلَّا الضَّرُورَةُ، هَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ. مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إنَّ الرِّبَا مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا ضَرُورَةَ فِي الرِّبَا، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِرَاضُ. لَكِنْ بِالنَّظَرِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَقَفْتُ عَلَى أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ ذَكَرُوا صُوَرًا يَجُوزُ فِيهَا إعْطَاءُ الرِّبَا لِلضَّرُورَةِ، مَثَلًا: إنْ أَشْرَفْتُ عَلَى هَلَكَةٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مَنْ يُعِينُنِي عَلَى سَدِّ حَاجَتِي، فَوَجَدْتُ مَنْ يُقْرِضُنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ يَشْتَرَطُ عَلَيَّ بِالرِّبَا، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الِاقْتِرَاضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ هَذِهِ الضَّرُورَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُمَيِّزَ لِلرِّبَا عَنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ أُنَبِّهُ إخْوَانِي إلَى مَسْأَلَةِ مَتَى تُبَاحُ الضَّرُورَةُ، مَا هِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ عِنْدَهُمْ تَوَسُّعٌ، الْآنَ يَا شَيْخُ مُحَمَّدٌ يُسَمُّونَ الْحَاجَاتِ ضَرُورَاتٍ، أَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا حَاجِيَّةً سَهْلَةً يُسَمُّونَهَا ضَرُورَاتٍ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ ضَرُورَةً، إنَّمَا هِيَ حَاجَةٌ، فَيَنْبَغِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، ثُمَّ إذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ ضَرُورَةً وَاضِحَةً عِنْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ شَرْطَيْنِ لِلْإِبَاحَةِ:
- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَحَقَّقَ انْدِفَاعُ الضَّرُورَةِ بِهَذَا الْمُحَرَّمِ، وَأَضْرِبُ بِمِثَالٍ حَتَّى يَتَّضِحَ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
- الثَّانِي: أَنْ يَتَعَيَّنَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ، مِثَالُهُ: إِنْسَانٌ غُصَّ فِي لُقْمَةٍ فِي حَلْقِهِ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ، لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا كُوبُ خَمْرٍ، الْآنَ عِنْدَنَا الضَّرُورَةُ تَعيَّنَ دَفْعُهَا بِهَذَا الْمَشْرُوبِ، مَا فِيهِ عِنْدَنَا مَشْرُوبٌ آخَرُ. ثَانِيًا: هَلِ الضَّرُورَةُ سَتَنْدَفِعُ، هَلِ السَّائِلُ سَيَدْفَعُ هَذِهِ اللُّقْمَةَ الَّتِي وَقَفَتْ فِي حَلْقِ الْإِنْسَانِ إِلَى جَوْفِهِ؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ، مِنْ خَوَاصِّ الْمَائِعَاتِ أَنَّهَا تَدْفَعُ، فَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ الشَّرْطَانِ، فَيَجُوزُ شُرْبُ الْخَمْرِ. لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، وَإِنْ كُنْتُ أَطَلْتُ عَلَيْكَ: إنْسَانٌ فِي بَرِّيَّةٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا خَمْرٌ، فِي بَرِّيَّةٍ عَطِشَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءٌ، وَاحْتَاجَ أَنْ يَسُدَّ رَمَقَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ لِيَسُدَّ رَمَقَهُ؟ الْجَوَابُ: لَا، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ انْدِفَاعُ الضَّرُورَةِ، ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ الْخَمْرَ يُلْهِبُ الْكَبِدَ وَيَزِيدُ الْعَطَشَ لَا يُسْكِنُهُ، فَلِذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ فَلَا يَجُوزُ شُرْبُهُ.