الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ، وَمَوْضُوعُ القَدَرِ حَقِيقَةً مَوضُوعٌ كَبِيرٌ لا يُمْكِنُ أَنْ نُجْمِلَهُ فِي جَوَابٍ عَابِرٍ، وَلَكِنْ أَوَّلًا أُوصِي أَخِي بِأَنْ لَا يُكِلِّفَ ذِهْنَهُ كَثِيرًا فِي مَسْأَلَةِ القَدَرِ؛ لِأَنَّ القَدَرَ سِرُّ اللهِ فِي خَلْقِهِ، لَمْ يُظْهِرْهُ لمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَهُوَ مِنَ الشُّؤُونِ الَّتِي يَعْجَزُ العَقْلُ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّتِهَا، كَسَائِرِ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِهِ؛ وَلَكِنَّنَا نُوقِنُ أَنَّ قَدَرَ اللهِ تَعَالَى مُنْدَرِجٌ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ الشورى: 11 ، وَنُؤْمِنُ إِيْمَانًا جَازِمًا يَقِينًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فصلت: 46 ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»[صحيح مسلم55 - (2577)]، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ بِأَنَّ رَبَّه حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا ظُلْمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْدَارِهِ، وَلَا ظُلْمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيءٌ مِنْ الضِّيقِ أَوِ الإِشْكَالِ فِي القَدَرِ فَلْيَسْأَلْ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: لَقِيْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا المُنْذِرِ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا القَدَرِ، فَحَدِّثْنِِي بِشَيءٍ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي، قَالَ: ((لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَدَخَلْتَ النَّارَ))، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَتِيْتُ ابنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لِيَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ مِثْلَ ذَلِكَ. [سنن أبي داود(4699)، وصححه ابن حبان.
وَالقَدَرُ يَتَضَمَّنُ الإِيْمَانَ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ كُلَّ شَيءٍ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَتَبَ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ شَاءَ وَخَلَقَ، هَذِهِ المَرَاتِبُ الأَرْبَعُ لا بُدَّ مِنَ الإِيْمَانِ بِهَا حَتَّى يُحِقِّقَ المًسْلِمُ الإِيْمَانَ بِالقَدَرِ.
بَعْدَ هَذَا نَرْجِعُ إِلَى السُّؤَالِ، وَهُوَ هَلْ يَسُوغُ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ عَلَى المَعَاصِي؟
هَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَا شَرْعًا وَلا عَقْلًا، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ أَتَى إِلَيْكَ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِكَ، أَوِ اعْتَدَى عَلَى بَدَنِكَ بِضَرْبٍ، ثُمَّ لمَّا فَرَغَ قَالَ: اسْمِحْ لِي أَنَا كَتَبَ اللهُ عَلَيَّ ذَلِكَ، هَلْ تَقْبَلُ مِنْهُ هَذِهِ الحُجَّةَ، أَمْ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ مُسَوِّغَةٌ لِمُضَاعَفَةِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؟!
وَكَذَلِكَ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حَقَّ اللهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُحْفَظَ، وَلَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ عَلَى المَعَايِبِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِسْلَامِ.
وَإِنَّمَا يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِالقَدَرِ فِي المَصَائِبِ، إِذَا حَصَلَتْ مُصِيبَةٌ عِنْدَهَا قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
وَأُوْصِي أَخِي وَأُحِذِّرهُ مِنَ الخَوْضِ فِي هَذَا المَوْضُوعِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَقِفَ عَلَى حَدِّ يَنْتَهِي، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ مَا نَشَاؤُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَشِيْئَةِ اللهِ تَعَالَى، فَمَشِيْئَةُ اللهِ عَالِيَةٌ غَالِبَةٌ، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ الإنسان: 30، نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكُمْ سَلَامَةَ الاعْتِقَادِ وَالعَمَلِ.
أخوكم
أ.د.خالد المصلح
5 / 3 / 1430هـ