الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَجِبُ عَلَى قَارِئِ القُرآنِ أَنْ يَتَرَسَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ؛ امْتِثَالاً لِقَولِه تَعَالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّه كَانَ يَقْرَأُ القُرْآنَ مُتَرَسِّلًا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (772) عَنْ حُذِيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ))، وَقَالَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا)) رواه مسلم (733)، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ يُرَدِّدُ الآيَةَ فِي صَلَاةِ الليلِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (20984) وَالنَّسَائِيِّ (1010) وابنِ مَاجَة (1350) مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ((قَامَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُردِّدُهَا، وَالآيَةُ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118])).
وَلِأَنَّ المَقْصُودَ مِنَ القِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ والاتِّعَاظُ، لَا مُجَرَّدَ إِجْرَاءِ الأَلفَاظِ دُونَ الوقُوْفِ عَلَى مَعَانِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وَلَا يُمكِنُ أَنْ يَتَحقَّقَ التَّدَبُّرُ والتَّفَهُّمُ لِلقُرآنِ إِلَّا بِالتَّأَنِّي فِي قِرَاءَتِهِ، وِفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (822) عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: نَهِيكُ بنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ ـ يَعْنِي ابنَ مَسُعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فَقَالَ: إِنِّي لَأَقْرَأُ المُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: ((هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ)).
وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلِ الأَفْضَلُ التَّرْتِيلُ مَعَ قِلَّةِ القِرَاءَةِ، أَوِ السُّرْعَةُ مَعَ كَثْرَةِ القِرَاءَةِ؟ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيْلَ وَالتَّدَبُّرَ مَعَ قِلَّةِ القِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنَ السُّرْعَةِ مَعَ الكَثْرَةِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ المَقْصُودَ فَهْمُ القُرْآنِ وَالعَمَلُ بِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
أخوكم
أ.د. خالد المصلح
29 /1 / 1429هـ