الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الذَّهَبِ الْخَالِصِ الْكَثِيرِ عَلَى الرِّجَالِ، سَوَاءً أَكَانَ مُفْرَدًا أَمْ تَابِعًا لِغَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي فِيهَا النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(5866) وَمُسْلِمٌ(2091) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِخَاتَمِهِ وَقَالَ: «لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا». وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ(937) وَأَبُو دَاوُد(4057) وَالنَّسَائِيُّ(5144) وَابْنُ مَاجَهْ(3595) مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَرِيرًا بِشِمَالِهِ، وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ، فَقَالَ: «إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ». وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لُبْسِ الرَّجُلِ الذَّهَبَ الْيَسِيرَ التَّابِعَ لِغَيْرِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ المَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى تَحْرِيمِهِ، مُسْتَدِلِّينَ بِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلرَّجُلِ الذَّهَبُ الْيَسِيرُ التَّابِعُ لِغَيْرِهِ، كَالزِّرِّ فِي الثَّوْبِ، وَعَقَارِبِ السَّاعَةِ، وَأَزْرَارِ الْقَمِيصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَاسْتَدَلُّوا لِلْجَوَازِ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ(16391) وَأَبُو دَاوُد(4239) وَالنَّسَائِيُّ(5149) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: «أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا». قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَهْذِيبِ السُّنَنِ(11/202): "وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِي إبَاحَةِ الذَّهَبِ مُطْلَقًا هُوَ فِي التَّابِعِ غَيْرِ الْفَرْدِ، كالعَلَمِ وَنَحْوِهِ". اهُ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ(2069) مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ. فَاسْتَثْنَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْيَسِيرَ التَّابِعَ فِي الْحَرِيرِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحْرَّمَ هُوَ الْخَالِصُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ(10(294): إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ الْحَرِيرِ، فَأَمَّا الْعَلَمُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَسَدَى الثَّوْبِ فَلَا بَأْسَ. وَالذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ مُتَّفِقَانِ فِي الْحُكْمِ وَالْمَعْنَى، فَلَمَّا جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي الْحَرِيرِ ثَبَتَتْ فِي الذَّهَبِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أَخُوكُمْ
أ.د. خَالِد الْمُصْلِح
19/10/1428هـ