الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمَينَ، وَأُصِلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأَوْجَبَ اللهُ تَعالَى عَلَى المؤْمِنِينَ إِقامَةَ الصَّلَواتِ في أَوْقاتِها فَقالَ تَعالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، فَواجِبٌ عَلَى المؤْمِنِ أَنْ يُحافِظَ عَلَى الصَّلاةِ في أَوْقاتِها كَما أَمَرَ اللهُ تَعالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]، وَلِتَحْقِيقِ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنْ أَوْقاتَ الصَّلَواتِ لَها حالانِ:
الحالُ الأُولَى: حالُ السَّعَةِ، وَهِيَ في هَذِهِ الحالِ خَمْسَةُ أَوْقاتٍ، لِكُلِّ صَلاةٍ وَقْتٌ يَخُصُّها، كَما ذَكَرَها اللهُ تَعالَى في قَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، وَكَما في قَوْلِهِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18].
وَقَدْ جاءَ بَيانُ أَوْقاتِ هَذِهِ الصَّلَواتِ ابْتِداءً وَانْتِهاءً في سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (614) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَىَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتاهُ سائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَواقِيتِ الصَّلاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، قالَ: «فَأَقامَ الفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الفَجْرُ، وَالنَّاسُ لا يَكادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالقائِلُ يَقُولُ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهارُ، وَهُوَ كانَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقامَ بِالعَصْرِ وَالشَّمْسُ مَرْتَفِعَةٌ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقامَ بِالمغْرِبِ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقامَ العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفَقُ. ثُمَّ أَخَّرَ الفَجْرَ مِنَ الغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْها، وَالقائِلُ يَقُولُ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ كادَتْ، ثُمَّ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ العَصْرِ بِالأَمْسِ، ثُمَّ أَخَّرَ العَصْرَ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْها، وَالقائِلُ يَقُولُ: قَدِ احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ أَخَّرَ المغْرِبَ حَتَّى كانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أَخَّرَ العِشاءِ حَتَّى كانَ ثُلُثَ اللَّيْلِ الأَوَّلِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعا السَّائِلَ فَقالَ: الوَقْتُ بَيْنَ هَذَيْنِ».
الحالُ الثَّانِيَةُ: حالَ العُذْرِ، وَهِيَ في هَذِهِ الحالِ ثَلاثَةُ أَوْقاتٍ، الفَجْرُ وَقْتٌ، وَالظُّهْرُ وَالعَصْرُ وَقْتٌ، وَالمغْرِبُ وَالعِشاءُ وَقْتٌ، فَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمغْرِبِ وَالعِشاءِ، وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجَمْعُ حالَ السَّفَرِ في أَحادِيثَ عَدِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ الجَمْعُ حالَ الإِقامَةِ؛ لأَجْلِ العُذْرِ وَرَفْعِ الحَرَجِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (705) مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمغْرِبِ وَالعِشاءِ بِالمدِينَةِ، في غَيْرِ خَوْفٍ وَلا مَطَرٍ» قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قالَ: «كَيْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» وَفي رِوَاية قال: «أَرادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ»، فَهَذا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في مَشْرُوعِيَّةِ الجَمْعِ لأَجْلِ الحاجَةِ، وَقَدْ قالَ بِهَذا الأَصْلِ جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ المالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالحَنابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا في ضابِطِ الحاجَةِ المبِيحَةِ لِلجَمْعِ، وَأَقْرَبُ ما يُقالُ في ضابِطِ ما يُبِيحُ الجَمْعَ: (كُلُّ ما يَلْحَقُ الإِنْسانَ فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الجَمْعُ مِنْ أَجْلِهِ، بِشَرْطِ أَلَّا يَتَّخِذَ ذَلِكَ عادَةً)، وَبِهذا قالَ جَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ المنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ، وَبِهِ قالَ شَيْخُنا ابْنُ عُثَيْمِينَ، وَعَلَى هَذا فَيَجُوزُ الجَمْعُ لِلطَّبِيبِ إِذا احْتاجَ لِذَلِكَ، سَواءً أَكانَ في غُرْفَةِ العَمَلِيَّاتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحالاتِ الَّتِي تَسْتَدْعِي حُضُورَهُ.
لَكِنْ مِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ إِلَيْهِ في مَسْأَلَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ، أَنَّهُ يَنْبَغِي الحَذَرُ مِنَ التَّساهُلِ في ذَلِكَ، فَقَدْ أَجْمَعَ العُلَماءُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ في الحَضَرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ عَلَى حالٍ ألبَتَّة، كَما حَكاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في التَّمْهِيدِ (12/210)، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ الكَبائِرِ.
أخوكم
أ.د.خالد المصلح