الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ، وَأُصِلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِينَ.
وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَبِخُصُوصِ اسْتِفْسارِكُمْ عَنْ إِمْكانِيَّةِ تَأْخِيرِ وَقْتَيْ صَلاتَيِ العِشاءِ وَالظُّهْرِ، فَأُفِيدُكُمْ بِأَنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ، في صِحَّةِ الصَّلَواتِ المكْتُوباتِ، ما دامَ قَدْ تَمَّ أَداؤُها في الوَقْتِ، سَواءً في أَوَّلِهِ أَوْ في وَسَطِهِ أَوْ في آخِرِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، إِلاَّ أنَّ الأَفْضَلَ في الصَّلَواتِ المكْتُوباتِ أَنْ تُؤَدَّى في أَوَّلِ الوَقْتِ، لما في "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عِنْدَما سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِها» صَحِيحُ البُخارِيِّ(527)، وَمُسْلِم(85)، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِأَنْ تُصَلَّى في أَوَّلِ وَقْتِها، وَهَذا أَصْلٌ شامِلٌ لِكُلِّ الصَّلَواتِ؛ إِلاَّ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ اخْتَلَفُوا في أَفْضَلِ وَقْتٍ لِصَلاةِ العِشاءِ، فَقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالحَنابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ بِاسْتِحْبابِ تَأْخِيرِها إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، لما جاءَ في "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِما، عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، مِنْهُ ما رَواهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَمَ ذاتَ لَيْلَةٍ، حَتَّى ذَهَبَ عامَّةٌ اللَّيْلِ، وَحَتَّى نامَ أَهْلُ المسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، وَقالَ: «إِنَّهُ لَوَقْتُها لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (638). وَكَذَلِكَ ما جاءَ في "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَمَ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُصَلُّوها هَكَذا» صَحِيحُ البُخارِيِّ(571)، وَمُسْلِم(642) ، فَعَلَى هَذا القَوْلِ يَكُونُ الأَفْضَلُ في وَقْتِ صَلاةِ العِشاءِ، أَنْ تُصَلَّى بَعْدَ مُضِيِّ ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ، ما لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّاسِ.
وأَمَّا بِخُصُوصِ تَأْخِيرِ صَلاةِ الظُّهْرِ، إِلَى قُبَيْلِ العَصْرِ، فَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلَى أَنَّ الأَفْضَلَ في صَلاةِ الظُّهْرِ صَلاتُها في أَوَّلِ الوَقْتِ، إِلَّا في شِدَّة الحَرِّ، فَإِنَّه يُسْتَحَبُّ الإِبْرادُ بِها (وَهُوَ تَأْخِيرُها) إِلَى قُبَيلِ العَصْرِ؛ لما جاءَ في "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قالَ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ لَهُ: «أَبْرِدْ أَبْرِدْ» أَيْ: انْتَظِرْ انْتَظِرْ، ثُمَّ قالَ: «شِدَّةُ الحَرِّ مِنْ فَيْح جَهَنَّمَ، فَإِذا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاةِ»، صَحِيحُ البُخارِيِّ(535)، وَمُسْلِم(616) وَقَدْ جاءَ مِثْلُ هَذا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَنَبَّهَ إِلَيْهِ أَنَّ المرْجِعَ في تَحْدِيدِ أَوْقاتِ الصَّلَواتِ وَزارَةُ الشُّؤُونِ الإِسْلامِيَّةِ وَالأَوْقافِ وَالدَّعْوَةِ وَالإِرْشادِ، فَإِنَّها الجِهَةُ الَّتي تُعْنَى بِذَلِكَ، مُراعِيَةً فِيهِ ما يُحَقِّقُ السُّنَّة، وَيَصْلُحُ بِهِ حالُ النَّاسِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ما دامَ في الوَقْتِ، يَدُلُّ لِذَلِكَ ما جاءَ في "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ أَنَّهُ قالَ في وَقْتِ صَلاةِ النَّبِيِّ العِشاءَ: «وَالعِشاءَ أَحْيانًا وَأَحْيانًا إِذا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّل، وَإِذا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ» صَحِيحُ البُخارِيِّ(560)، وَمُسْلِم(646)، وَهَذا أَصْلٌ في مُراعاةِ ما يَتَحَقَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ النَّاسِ، وَتَنْدَفِعُ بِهِ عَنْهُمُ المشَقَّةَ.
وَفَّقَ اللهُ الجَمِيعَ إِلَى ما فِيهِ الخَيْرُ.
عُضْوُ الإِفْتاءِ في مِنْطَقَةِ القَصِيمِ
أ.د خالد بْنُ عَبْدِاللهِ المصْلِح