هَلْ يَجوزُ الانْصِرافُ مِنَ الحَجِّ يَوْمَ الحادِي عَشَرَ؛ وَذَلِكَ نَظَرًا لِاخْتِلافِ مَواعيدِ السَّفَرِ، بِسَبَبِ اكْتِمالِ شَهْرِ ذي القِعْدَةِ، مِمَّا يَضْطَرُّنِي للانْصِرافِ يَوْمَ الحادِي عَشرَ؟
خزانة الأسئلة / مناسك / حكم انصراف المضطر من منى قبل يوم الثاني عشر
هل يجوز الانصراف من الحجِّ يوم الحادي عشر؛ وذلك نظرًا لاختلاف مواعيد السفر، بسبب اكتمال شهر ذي القعدة، مما يضطرني للانصراف يوم الحادي عشر؟
السؤال
هَلْ يَجوزُ الانْصِرافُ مِنَ الحَجِّ يَوْمَ الحادِي عَشَرَ؛ وَذَلِكَ نَظَرًا لِاخْتِلافِ مَواعيدِ السَّفَرِ، بِسَبَبِ اكْتِمالِ شَهْرِ ذي القِعْدَةِ، مِمَّا يَضْطَرُّنِي للانْصِرافِ يَوْمَ الحادِي عَشرَ؟
هل يجوز الانصراف من الحجِّ يوم الحادي عشر؛ وذلك نظرًا لاختلاف مواعيد السفر، بسبب اكتمال شهر ذي القعدة، مما يضطرني للانصراف يوم الحادي عشر؟
الجواب
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبيِّنا مُحمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحابِهِ أجْمَعِينَ.
أمَّا بَعْدُ:
فَالْوَاجِبُ عَلَى الحاجِّ أنْ يتَّقِيَ اللهَ تَعالَى في مَناسِكِ حَجِّهِ، وَأَنْ يُتِمَّها كَمَا أَمرَهُ اللهُ تَعالَى في قَوْلِهِ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 196.، فَإنَّ مِنْ إتْمامِ الحَجِّ إتمامَ مَناسِكِهِ وواجِباتِهِ وسُنَنِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعالَى بذِكْرِهِ في الأيَّامِ الْمَعْدوداتِ، فَقَالَ تَعالَى:﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 203، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْريقِ في قَوْلِ جَميعِ الْمُفَسِّرينَ، كَمَا حَكَى غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ. ثُمَّ أَذِنَ اللهُ تَعالَى بَعْدَ ذَلِكَ في التَّعجُّلِ في يَوْمَيْنِ مِنْ أيَّامِ التَّشْريقِ، فقالَ جَلَّ وعَلا: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ سُورَةُ البَقَرةِ: 203، وهَذَا التَّعجُّلُ يَكونُ بالانْصِرافِ يَوْمَ الثَّانِي عَشرَ مِنْ ذي الحِجَّةِ، بِاتِّفاقِ أَهْلِ العِلْمِ، فَالوَاجِبُ الْمَبِيْتُ في مِنًى لَيْلَتَيِ الْحَادِي عَشَرَ وَالثانِي عَشَرَ، وكَذَلِكَ يَجِبُ رَمْيُ الجِمارِ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ؛ فإنَّ ذَلِكَ كُلَّه مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى الْمَأمورِ بِهِ في الآَيَةِ.
لَا يحِلُّ للحَاجِّ الانصِرافُ مِنْ مِنًى والتَّعَجُّلُ قَبْلَ ذَلِكَ، هَذَا هُو الأَصْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ.
أمَّا مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ، فَقَدِ اخْتَلفَ أهْلُ العِلْمِ فِيْما يَترتَّبُ عَلَى انصِرافِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ في الجُمْلةِ:
القَوْلِ الأوَّلِ:أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادي عَشرَ دَمٌ؛ إمَّا دَمٌ لكُلِّ واجِبٍ تَرَكَهُ بِسبَبِ انصِرافِهِ قَبْلَ أوانِهِ الْمَأذونِ فِيْهِ، ومُسْتَندُ هَذَا القَوْلِ ما رَواهُ مَالِكٌ وغيرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَوْقوفًا: «مَنْ نَسِيَ مِن نُسُكِهِ شَيئًا أو تَرَكَه؛ فلْيُهْرِقْ دَمًا» "الْمُوَطَّأُ"(940)..
وإمَّا أَنَّهُ يجِبُ عَلَيْهِ دَمُ إحْصارٍ عنْ جَميعِ مَا عَجزَ عَنْهُ مِنَ الواجِباتِ؛ لِأنَّهُ في حُكْمِ الْمُحصَرِ، وهَذَا جارٍ عَلَى مَذْهَبِ الحنابِلَةِ فِيْمَنْ أُحصِرَ عَنْ واجِبٍ، حَيْثُ قالُوا بِوُجوبِ الدَمِ عَمَّا أُحصِرَ عَنْهُ مِنَ الواجِباتِ. وقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِنا ابنِ بازٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَهُو ما قَدْ يُفهَمُ مِنْ بَعْضِ فَتاوَى شَيْخِنا ابنِ عُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ.
القَوْلِ الثَّاني: أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ دَمٌ مُطْلقًا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ سُورةُ التَّغابُنِ: 16.،
وفي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيرَةَ مَرْفوعاً: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» "صَحيحُ البُخَاريِّ"(7288)، وَمُسلِمٍ (1337).،
فَلا يَجِبُ عَلَى المضطَّرِ إِلَى الانصِرافِ مِنْ مِنَى قَبْلَ اليَوْمِ الثَّاني عَشرَ دمٌ لعُذْرِهِ، وهَذَا جارٍ عَلَى ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الحَنَفيَّةُ والمالِكيَّةُ والشَّافِعيَّةُ، في أنَّ تَرْكَ الوَاجِبِ لعُذْرٍ لا يجِبُ بِهِ دَمٌ، وهَذَا ما أَفْتَى بِهِ شَيْخُنا ابنُ بازٍ وشَيْخُنا ابنُ عُثَيْمِينٍ - رَحِمَهُما اللهُ - فِيْمَنْ لم يَتمَكَّنْ مِنَ الْمَجيءِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ حَتَّى خَرجَ وَقْتُ الوُقوفِ بِها، فأَسْقَطا عَنْهُ الْمَبِيْتَ بمُزْدَلِفةَ للعُذْرِ، ولَمْ يُوجِبا عَلَيْهِ فِدْيَةٌ.
وقَدْ نصَّ ابنُ نُجَيْمٍ"البَحْرُ الرَّائِقُ "(2/ 376). في مَسْألةِ تَرْكِ الرَّمْيِ لعُذْرٍ، أنَّ المرْأةَ لَوْ تَركَتِ الرَّمْيَ للزِّحامِ لا يَلْزَمُها شَيءٌ؛ جَريًا عَلَى قَوْلِ الحَنفيَّةِ، في أنَّ المرْأةَ لو تَركَتِ الوُقوفَ بمُزْدَلِفَةَ لا يَلْزَمُها شَيءٌ.
ويُشْكِلُ عَلَى هَذَا القَوْلِ ما جَاءَ في أثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ المتُقدِّمِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيْهِ: "مَن نسِيَ من نُسُكِه شَيئًا أو تَركَهُ؛ فليُهرِقْ دَمًا». فَرتَّبَ عَلَى التَّرْكِ نِسْيانَ دمٍ، مَعَ كَوْنِ النِّسيانِ عُذْرًا. ويُجابُ عَنْ ذَلِكَ بأنَّ أيُّوبَ السِّخْتيانِي أَحَدَ رُواةِ أثَرِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لا أدْرِي قَالَ: تَرَكَ أو نَسِيَ"الْمُوَطَّأُ" (940).. فأَشارَ مَالِكٌ بِهَذَا النَّقْلِ عَنْ أيُّوبَ أنَّ قَوْلَهُ: " أَوْ " للشَّكِّ ولَيْسَتْ للتَّقْسِيمِ.
كَمَا أنَّ النِّسْيانَ في اللُّغَةِ يُطلَقُ عَلَى التَّرْكِ، ومِنْهُ قَوْلُهُ تَعالَى :﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ الجَاثِيَةُ: 34 ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في السُّنَّةِ الرُّخصةُ في تَرْكِ الوَاجِبِ دُوْنَ إلزامٍ بدَمٍ، كَمَا في تَرخِيْصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرُّعاةِ والسُّقاةِ في البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، ولمْ يُلْزِمْهُمْ بِدَمٍ كمَا في الصَّحِيْحَينِ في إِذْنِ النَّبِيِّ للعَبَّاسِ في البَيْتوتَةِ عَنْ مِنًى لأجْلِ السِّقايَةِ، وَكَذَلِكَ مَا في "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" (1975)، والتِّرْمِذيِّ (955)، والنَّسائِيِّ (3069)، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُدَيٍّ قَالَ : "رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرِعاءِ الإبِلِ في البَيْتُوتةِ..."الحَدِيثُ. وقَالَ التِّرمِذيُّ :"حَسَنٌ صَحِيحٌ". يُحمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ واجِباتِ الحَجِّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَقَدْ يُقالُ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ التَّوكيلُ في رَمْيِ اليَوْمِ الثَّانِي عَشرَ إنْ أمْكَنَهُ ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَسْتطِعِ التَّوكِيلَ يَسْقُطْ عَنْهُ الرَّمْيُ ولَا يَجِبْ عَلَيْهِ شَيءٌ لعُذْرِهِ.
ودَلِيلُ ذَلِكَ أنَّ التَّوكِيلَ في الرَّمْيِ عَنِ العاجِزِ جَاءَتْ بِهِ السُّنةُ، كمَا في الْمُسنَدِ والسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ: «حَجَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَنا النِّساءُ والصِّبيانُ، فَلَبَّيْنا عَنِ الصِّبْيانِ، ورَمَيْنا عَنْهُم»"مُسْنَدُ أَحْمدَ" (3/ 314)،والتِّرمِذيُّ (927)، وابْنُ مَاجَه (3038). وَقَالَ التِّرمِذِيُّ: "حَدِيثٌ غَريبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ المرْأةَ لَا يُلَبِّي عَنْهَا غَيْرُها، بَلْ هِيَ تُلَبِّي عَنْ نَفْسِها. ويُكْرَهُ لها رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبيَةِ. . قَالَ ابْنُ عَبدِ البَرِّ: "لَا يَخْتَلِفونَ أَنَّهُ مَنْ لا يَستَطِيعُ الرَّمْيَ لِعُذْرٍ؛ رُمِيَ عَنْهُ وإِنْ كَبَّرَ"" الاسْتِذكارُ " ( 4/ 352).، وَمِمَّا يُؤَيدُ هَذَا أنَّ الإنابَةَ مَشْروعَةٌ في أصْلِ الحَجِّ في حالِ العَجْزِ، فَكَذَا في أجْزائِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ بِأنَّهُ يجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشَرَ أنْ يُقدِّمَ رَمْيَ اليَوْمِ الثَّاني عَشَرَ مَعَ رَمْيِ اليَوْمِ الحادِي عَشَرَ، وأصْلُ ذَلِكَ ما جَاءَ مِنْ رُخْصَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرُّعاةِ في أَنْ يَرْموا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْموا مِنَ الغَدِ عَنْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْموا يَوْمَ النَّحْرِ الآَخِرِ. وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، لَكنْ يُشْكَلُ عَلَيْهِ أنَّ الرُّخْصَةَ في جَمْعِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ في يَوْمِ الحادِي عَشَرَ إنَّما هِيَ لِمَنْ يَرْمِي يَوْمَ الثَّالثِ عَشَرَ.
وَأَقْربُ الأقْوالِ إِلَى الصَّوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ؛ سَقَطَ عَنْهُ مَبِيْتُ لَيْلَةِ الثَّانِي عَشرَ للعُذْرِ، فإنْ أَمكَنَهُ التَّوكِيلُ عَنْ رَمْيِ اليَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ لَزِمَهُ التَّوكِيلُ وإلَّا سَقَطَ عَنْهُ للعُذْرِ، ويَجِبُ عَلَيْهِ طَوافُ الوَداعِ قَبْلَ انصِرافِهِ، لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1327).. فإنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَدُ" نَكِرةٌ في سِياقِ النَّهْيِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُنْصَرِفٍ مِنَ الحَرَمِ بَعْدَ حَجِّهِ، وَكَوْنُهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ ما وَكَّلَ فِيْهِ مِنْ أعْمالِ الحَجِّ الَّتِي يَعْجَزُ عَنْها فَإِنَّه لا يَمْنَعُهُ مِنْ طَوافِ الوَداعِ، كَمَا لَو وَكَّلَ مَنْ يَذْبَحُ عَنْهُ هَدْيَ الْمُتعَةِ في اليَوْمِ الثَّالِثِ عَشَرَ وَانْصَرفَ في اليَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، فإنَّه يَطوفُ للوَداعِ قَبْلَ انصِرافِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِيْنَ.
كَتَبَهُ
أ.د. خالِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الْمُصلِح
عُضْوُ الإفْتاءِ بالقَصِيمِ
وأستاذُ الفِقْهِ بجامِعَةِ القَصِيمِ
3 / 12 / 1436هـ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبيِّنا مُحمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحابِهِ أجْمَعِينَ.
أمَّا بَعْدُ:
فَالْوَاجِبُ عَلَى الحاجِّ أنْ يتَّقِيَ اللهَ تَعالَى في مَناسِكِ حَجِّهِ، وَأَنْ يُتِمَّها كَمَا أَمرَهُ اللهُ تَعالَى في قَوْلِهِ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ +++ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 196.---، فَإنَّ مِنْ إتْمامِ الحَجِّ إتمامَ مَناسِكِهِ وواجِباتِهِ وسُنَنِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعالَى بذِكْرِهِ في الأيَّامِ الْمَعْدوداتِ، فَقَالَ تَعالَى:﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ +++ سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 203---، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْريقِ في قَوْلِ جَميعِ الْمُفَسِّرينَ، كَمَا حَكَى غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ. ثُمَّ أَذِنَ اللهُ تَعالَى بَعْدَ ذَلِكَ في التَّعجُّلِ في يَوْمَيْنِ مِنْ أيَّامِ التَّشْريقِ، فقالَ جَلَّ وعَلا: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾+++ سُورَةُ البَقَرةِ: 203---، وهَذَا التَّعجُّلُ يَكونُ بالانْصِرافِ يَوْمَ الثَّانِي عَشرَ مِنْ ذي الحِجَّةِ، بِاتِّفاقِ أَهْلِ العِلْمِ، فَالوَاجِبُ الْمَبِيْتُ في مِنًى لَيْلَتَيِ الْحَادِي عَشَرَ وَالثانِي عَشَرَ، وكَذَلِكَ يَجِبُ رَمْيُ الجِمارِ في هَذَيْنِ اليَوْمَيْنِ؛ فإنَّ ذَلِكَ كُلَّه مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى الْمَأمورِ بِهِ في الآَيَةِ.
لَا يحِلُّ للحَاجِّ الانصِرافُ مِنْ مِنًى والتَّعَجُّلُ قَبْلَ ذَلِكَ، هَذَا هُو الأَصْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ.
أمَّا مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ، فَقَدِ اخْتَلفَ أهْلُ العِلْمِ فِيْما يَترتَّبُ عَلَى انصِرافِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ في الجُمْلةِ:
القَوْلِ الأوَّلِ:أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادي عَشرَ دَمٌ؛ إمَّا دَمٌ لكُلِّ واجِبٍ تَرَكَهُ بِسبَبِ انصِرافِهِ قَبْلَ أوانِهِ الْمَأذونِ فِيْهِ، ومُسْتَندُ هَذَا القَوْلِ ما رَواهُ مَالِكٌ وغيرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَوْقوفًا: «مَنْ نَسِيَ مِن نُسُكِهِ شَيئًا أو تَرَكَه؛ فلْيُهْرِقْ دَمًا» +++"الْمُوَطَّأُ"(940).---.
وإمَّا أَنَّهُ يجِبُ عَلَيْهِ دَمُ إحْصارٍ عنْ جَميعِ مَا عَجزَ عَنْهُ مِنَ الواجِباتِ؛ لِأنَّهُ في حُكْمِ الْمُحصَرِ، وهَذَا جارٍ عَلَى مَذْهَبِ الحنابِلَةِ فِيْمَنْ أُحصِرَ عَنْ واجِبٍ، حَيْثُ قالُوا بِوُجوبِ الدَمِ عَمَّا أُحصِرَ عَنْهُ مِنَ الواجِباتِ. وقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِنا ابنِ بازٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَهُو ما قَدْ يُفهَمُ مِنْ بَعْضِ فَتاوَى شَيْخِنا ابنِ عُثَيْمِين رَحِمَهُ اللهُ.
القَوْلِ الثَّاني: أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ دَمٌ مُطْلقًا؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ +++ سُورةُ التَّغابُنِ: 16.---،
وفي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ حَدِيثِ أبي هُرَيرَةَ مَرْفوعاً: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» +++"صَحيحُ البُخَاريِّ"(7288)، وَمُسلِمٍ (1337).---،
فَلا يَجِبُ عَلَى المضطَّرِ إِلَى الانصِرافِ مِنْ مِنَى قَبْلَ اليَوْمِ الثَّاني عَشرَ دمٌ لعُذْرِهِ، وهَذَا جارٍ عَلَى ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الحَنَفيَّةُ والمالِكيَّةُ والشَّافِعيَّةُ، في أنَّ تَرْكَ الوَاجِبِ لعُذْرٍ لا يجِبُ بِهِ دَمٌ، وهَذَا ما أَفْتَى بِهِ شَيْخُنا ابنُ بازٍ وشَيْخُنا ابنُ عُثَيْمِينٍ - رَحِمَهُما اللهُ - فِيْمَنْ لم يَتمَكَّنْ مِنَ الْمَجيءِ إِلَى مُزْدَلِفَةَ حَتَّى خَرجَ وَقْتُ الوُقوفِ بِها، فأَسْقَطا عَنْهُ الْمَبِيْتَ بمُزْدَلِفةَ للعُذْرِ، ولَمْ يُوجِبا عَلَيْهِ فِدْيَةٌ.
وقَدْ نصَّ ابنُ نُجَيْمٍ+++"البَحْرُ الرَّائِقُ "(2/ 376).--- في مَسْألةِ تَرْكِ الرَّمْيِ لعُذْرٍ، أنَّ المرْأةَ لَوْ تَركَتِ الرَّمْيَ للزِّحامِ لا يَلْزَمُها شَيءٌ؛ جَريًا عَلَى قَوْلِ الحَنفيَّةِ، في أنَّ المرْأةَ لو تَركَتِ الوُقوفَ بمُزْدَلِفَةَ لا يَلْزَمُها شَيءٌ.
ويُشْكِلُ عَلَى هَذَا القَوْلِ ما جَاءَ في أثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ المتُقدِّمِ؛ حَيْثُ قَالَ فِيْهِ: "مَن نسِيَ من نُسُكِه شَيئًا أو تَركَهُ؛ فليُهرِقْ دَمًا». فَرتَّبَ عَلَى التَّرْكِ نِسْيانَ دمٍ، مَعَ كَوْنِ النِّسيانِ عُذْرًا. ويُجابُ عَنْ ذَلِكَ بأنَّ أيُّوبَ السِّخْتيانِي أَحَدَ رُواةِ أثَرِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لا أدْرِي قَالَ: تَرَكَ أو نَسِيَ+++"الْمُوَطَّأُ" (940).---. فأَشارَ مَالِكٌ بِهَذَا النَّقْلِ عَنْ أيُّوبَ أنَّ قَوْلَهُ: " أَوْ " للشَّكِّ ولَيْسَتْ للتَّقْسِيمِ.
كَمَا أنَّ النِّسْيانَ في اللُّغَةِ يُطلَقُ عَلَى التَّرْكِ، ومِنْهُ قَوْلُهُ تَعالَى :﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ +++ الجَاثِيَةُ: 34--- ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في السُّنَّةِ الرُّخصةُ في تَرْكِ الوَاجِبِ دُوْنَ إلزامٍ بدَمٍ، كَمَا في تَرخِيْصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرُّعاةِ والسُّقاةِ في البَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، ولمْ يُلْزِمْهُمْ بِدَمٍ كمَا في الصَّحِيْحَينِ في إِذْنِ النَّبِيِّ للعَبَّاسِ في البَيْتوتَةِ عَنْ مِنًى لأجْلِ السِّقايَةِ، وَكَذَلِكَ مَا في "سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ" +++(1975)---، والتِّرْمِذيِّ +++(955)---، والنَّسائِيِّ +++(3069)---، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُدَيٍّ قَالَ : "رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرِعاءِ الإبِلِ في البَيْتُوتةِ..."الحَدِيثُ. وقَالَ التِّرمِذيُّ :"حَسَنٌ صَحِيحٌ". يُحمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ واجِباتِ الحَجِّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَقَدْ يُقالُ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ التَّوكيلُ في رَمْيِ اليَوْمِ الثَّانِي عَشرَ إنْ أمْكَنَهُ ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَسْتطِعِ التَّوكِيلَ يَسْقُطْ عَنْهُ الرَّمْيُ ولَا يَجِبْ عَلَيْهِ شَيءٌ لعُذْرِهِ.
ودَلِيلُ ذَلِكَ أنَّ التَّوكِيلَ في الرَّمْيِ عَنِ العاجِزِ جَاءَتْ بِهِ السُّنةُ، كمَا في الْمُسنَدِ والسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ جابِرٍ: «حَجَجْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَنا النِّساءُ والصِّبيانُ، فَلَبَّيْنا عَنِ الصِّبْيانِ، ورَمَيْنا عَنْهُم»+++"مُسْنَدُ أَحْمدَ" (3/ 314)،والتِّرمِذيُّ (927)، وابْنُ مَاجَه (3038). وَقَالَ التِّرمِذِيُّ: "حَدِيثٌ غَريبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ المرْأةَ لَا يُلَبِّي عَنْهَا غَيْرُها، بَلْ هِيَ تُلَبِّي عَنْ نَفْسِها. ويُكْرَهُ لها رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّلْبيَةِ.--- . قَالَ ابْنُ عَبدِ البَرِّ: "لَا يَخْتَلِفونَ أَنَّهُ مَنْ لا يَستَطِيعُ الرَّمْيَ لِعُذْرٍ؛ رُمِيَ عَنْهُ وإِنْ كَبَّرَ"+++" الاسْتِذكارُ " ( 4/ 352).---، وَمِمَّا يُؤَيدُ هَذَا أنَّ الإنابَةَ مَشْروعَةٌ في أصْلِ الحَجِّ في حالِ العَجْزِ، فَكَذَا في أجْزائِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أهْلِ العِلمِ بِأنَّهُ يجِبُ عَلَى مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشَرَ أنْ يُقدِّمَ رَمْيَ اليَوْمِ الثَّاني عَشَرَ مَعَ رَمْيِ اليَوْمِ الحادِي عَشَرَ، وأصْلُ ذَلِكَ ما جَاءَ مِنْ رُخْصَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرُّعاةِ في أَنْ يَرْموا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْموا مِنَ الغَدِ عَنْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْموا يَوْمَ النَّحْرِ الآَخِرِ. وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ، لَكنْ يُشْكَلُ عَلَيْهِ أنَّ الرُّخْصَةَ في جَمْعِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ في يَوْمِ الحادِي عَشَرَ إنَّما هِيَ لِمَنْ يَرْمِي يَوْمَ الثَّالثِ عَشَرَ.
وَأَقْربُ الأقْوالِ إِلَى الصَّوابِ أنْ يُقالَ: إنَّ مَنِ اضطُرَّ إِلَى الانصِرافِ في اليَوْمِ الحادِي عَشرَ؛ سَقَطَ عَنْهُ مَبِيْتُ لَيْلَةِ الثَّانِي عَشرَ للعُذْرِ، فإنْ أَمكَنَهُ التَّوكِيلُ عَنْ رَمْيِ اليَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ لَزِمَهُ التَّوكِيلُ وإلَّا سَقَطَ عَنْهُ للعُذْرِ، ويَجِبُ عَلَيْهِ طَوافُ الوَداعِ قَبْلَ انصِرافِهِ، لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» +++ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1327).---. فإنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَدُ" نَكِرةٌ في سِياقِ النَّهْيِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُنْصَرِفٍ مِنَ الحَرَمِ بَعْدَ حَجِّهِ، وَكَوْنُهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ ما وَكَّلَ فِيْهِ مِنْ أعْمالِ الحَجِّ الَّتِي يَعْجَزُ عَنْها فَإِنَّه لا يَمْنَعُهُ مِنْ طَوافِ الوَداعِ، كَمَا لَو وَكَّلَ مَنْ يَذْبَحُ عَنْهُ هَدْيَ الْمُتعَةِ في اليَوْمِ الثَّالِثِ عَشَرَ وَانْصَرفَ في اليَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، فإنَّه يَطوفُ للوَداعِ قَبْلَ انصِرافِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِيْنَ.
كَتَبَهُ
أ.د. خالِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الْمُصلِح
عُضْوُ الإفْتاءِ بالقَصِيمِ
وأستاذُ الفِقْهِ بجامِعَةِ القَصِيمِ
3 / 12 / 1436هـ