ما حَقيقَةُ الصَّوْمِ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.
وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.
ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر
على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004
من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا
بارك الله فيكم
إدارة موقع أ.د خالد المصلح
خزانة الأسئلة / تطبيق مع الصائمين / الصيام فتاوى وأحكام / ما هي حقيقة الصوم؟
ما هي حقيقة الصوم؟
السؤال
ما حَقيقَةُ الصَّوْمِ؟
ما هي حقيقة الصوم؟
الجواب
الحَمدُ لِلَّهِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ.
أمَّا بَعْدُ:
فإجابَةً عَلَى سُؤالِكَ نَقولُ وباللهِ تَعالَى التَّوفيقُ:
الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ حَقيقَتُهُ الشَّرعيَّةُ هُوَ الإمْساكُ عَنِ المُفطِّراتِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشَّمْسِ. وأصُولُ المُفطِّراتِ ثَلاثَةٌ: الأَكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ، قالَ اللهُ -جَلَّ وعَلا-: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البَقَرَةُ:187]، فالإمْساكُ عَنِ المُفطِّراتِ هُوَ الصِّيامُ، لكِنْ هُناكَ صِيامٌ يَشتَرِكُ فِيهِ الناسُ كلُّهُم -وأقصِدُ بالناسِ أهلَ الإيمانِ مِنَ الصَّائمِينَ- وهُوَ أنَّهُم يُمسِكونَ عمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعالَى مِنَ المُفطِّراتِ مِنْ طُلوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، وهَذَا الإمساكُ هَلْ هُوَ مَقصودٌ لذَاتِهِ، أم لَهُ غايَةٌ ومَقصُودٌ أبعَدُ مِنْ مُجرَّدِ الامتِناعِ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ والجِماعِ؟
إنَّ حَقيقَةَ الصَّوْمِ أنَّهُ تَزكيَةٌ للنُّفُوسِ وتَربيَةٌ لَها بأعْلَى دَرَجاتِ التَّربيَةِ والتَّزكيَةِ، وذَلِكَ أنَّ الصَّومَ إنَّما شَرَعَهُ اللهُ تَعالَى لتَحقيقِ التَّقوَى، كما قالَ جَلَّ في عُلاهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَةُ:183]، وحَقيقَةُ التَّقوَى ورُوحُها أنْ يَجعَلَ الإنْسانُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَذابِ اللهِ وِقايَةً، فهَكَذا تَكونُ مِنَ المُتَّقينَ. وكَيْفَ تَجعَلُ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَذابِ اللهِ وِقايةً؟
أنْ تَفعَلَ ما أمَرَكَ اللهُ تَعالَى بِهِ، وأنْ تَترُكَ ما نَهاكَ عَنْهُ؛ رَغبَةً فِيما عِنْدَهُ -جلَّ وعَلا- وخَوْفًا مِنْ عِقابِهِ؛ وبهَذَا تَكونُ مِنَ المُتَّقينَ.
ومَفهومُ التَّقوَى واسِعٌ، فيَبتَدِئُ أولًا في القُلُوبِ صَلاحًا وطِيبًا وزَكاءً، قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: «ألَا وإنَّ في الجَسَدَ مُضْغَةً، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلُّهُ؛ أَلا وهِيَ القَلْبُ»، ولذَلِكَ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- كما في الصَّحيحِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرَةَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنا، التَّقوَى هَاهُنا»، فليْسَ المَقصودُ مِنْ الصَّوْمِ الامتِناعَ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ دُوْنَ أنْ يُؤثِّرَ هَذَا في الأخْلاقِ زَكاءً، وفي الأعمالِ صَلاحًا، وفي المُعامَلَةِ استِقامَةً، وفي الظَّاهِرِ طِيبًا، وفي الباطِنِ زَكاءً وهِدايَةً ونُورًا، فإذا غابَتْ هذِهِ المَعانِي فإنَّ الصَّوْمَ لم يُؤَدِّ غَرضَهُ، ولم يَكُنْ مُنتِجًا الإنتاجَ المَقصودَ والمَطلوبَ، ولهَذَا جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَِّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قالَ: «مَن لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ، فليْسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَهُ». فقَوْلُهُ: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ» يَعنِي: القَوْلُ الباطِلُ، وقَوْلُ الزُّورِ ليْسَ شِهادةَ الزُّورِ فقَطْ، بَلْ هُوَ كُلُّ قَوْلٍ باطِلٍ وفاسِدٍ، ومَنْ لم يَدَعِ العَمَلَ بِهِ أي: العَمَلُ بالزُّورِ، وهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ فاسِدٍ ومُحرَّمٍ، صَغيرٍ أو كَبيرٍ في حَقِّ اللهِ وفي حَقِّ العِبادِ، فكُلُّ هَذَا ممَّا مَنَعتْهُ الشَّريعَةُ، فيَنبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يُطهِّرَ قَوْلَهُ وعَمَلَهُ مِنْ كُلِّ باطِلٍ لا سِيَّما في صِيامِهِ؛ لأنَّهُ إذا تَلبَّسَ بالباطِلِ والزُّورِ والسُوءِ والشَّرِ في قَوْلٍ أو عَمَلٍ فإنَّهُ لم يُحقِّقْ مَقصُودَ الصِّيامِ؛«مَنْ لم يدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ فليْسَ لِلَّهِ حاجةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ».
وأمْرُ الصَّوْمِ عَجيبٌ، ففِيهِ تَزكيَةُ النُّفُوسِ وتَربيَتُها، ولذَلِكَ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «والصَّوْمُ جُنَّةٌ»، وفي رِوايَةٍ أُخرَى: «والصِّيامُ جُنَّةٌ» أي: وِقايَةٌ مِنَ النَّارِ وعَذابِ اللهِ، لكِنْ هُناكَ وِقايَةٌ مُقدَّمَةٌ للوِقايَةِ مِنْ عَذابِ النَّارِ، ولا يُمكِنُ أنْ تَحصُلَ وِقايَةُ النَّارِ دُونَ وِقايَةِ أعْمالِ أهْلِها، فلذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «والصَّومُ جُنَّةٌ» هُوَ وِقايَةٌ مِنْ أعمَالِ السُّوءِ الَّتِي تُؤدِّي إلى النَّارِ كما أنَّهُ وِقايَةٌ مِنَ النَّارِ.
وأذكِّرُ نَفْسِي وإخوانِي الصَّائمِينَ الَّذينَ قَدْ يَجِدونَ شَيئًا مِنَ العَناءِ في صِيامِهِم بسَبَبِ حَرارَةِ الجَوِّ -ولا سِيَّما مَنْ يَخرُجُ ويَدخُلُ- بَحديثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فِيما رَواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ: «مَن صامَ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ باعَدَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّارِ سَبعِينَ خَريفًا»، نَسأَلُ اللهَ أنْ يُباعِدَ عَنَّا وعَنْكُمُ النَّارَ.
إذًا نَحنُ نَحتاجُ إلى أنْ نُفعِّلَ ثَمَرةَ الصِّيامِ في أخلاقِنا ومُعامَلاتِنا وأقوالِنا، فالصَّوْمُ يَسْمُو بالإنسانِ ويَرفَعُهُ إلى مَراتِبَ عُلْيا؛ ولذَلِكَ قالَ بَعْضُ الكُتَّابِ: "الصَّوْمُ إرادَةٌ مُستَعليَةٌ". وحَقيقَةً هُوَ إرادَةٌ مُستعلِيَةٌ عَنْ كُلِّ السَّفاسِفِ والرَّذائِلِ والقَبائِحِ، ومُستَعليَةٌ بأنْ تُحلِّقَ في آفاقِ السُّمُوِّ والفَضْلِ، ولهذا جاءَ في الصَّحيحِ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «إذا كانَ صَوْمُ يَوْمِ أحَدِكُم فلا يَسخَطْ ولا يَرفُثْ، فإنْ أحَدٌ سابَّهُ أو شاتَمَهُ – أو قاتَلَهُ في بَعْضِ الرِّواياتِ - فليَقُلْ: إنِي امرؤٌ صائِمٌ»، فهَلْ هَذَا لعَجْزٍ في مُقابَلَةِ الإساءَةِ بمِثْلِها فِيما أذِنَ اللهُ؟! لا، لكِنَّهُ السُّمُوُّ الَّذِي يَعلُو إلَيْهِ الصَّائِمُ ويَرتَقِي، فيَتْرُكُ ما لَهُ مِنْ مُقابَلَةِ الإساءَةِ بمِثْلِها - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى:40] إلى الصَّفْحِ والعَفْوِ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأَعْرافُ:199] - بأنْ يَقولَ: إنِّي صائِمٌ، فيُعلِنُ أنَّ الَّذِي كَفَّهُ عَنْ مُقابلَةِ الإساءَةِ بالإساءَةِ هُوَ ما تلبَّسَ بِهِ مِنْ طِيبِ باطِنٍ، وهُوَ الإمْساكُ ونَيِّتُهُ؛ فانعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ وعَمَلِهِ وأخلاقِهِ وسَائِرِ شَأنِهِ، وبهَذَا نُحقِّقُ الصِّيامَ المُنتِجَ. وأنا أَقولُ كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ الآثَارِ: «رُبَّ صائمٍ ليْسَ لَهُ مِن صَوْمِهِ إلَّا الجُوعُ والعَطَشُ» وهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ فقالَ: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ؛ فليْسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ». نَسألُ اللهَ أنْ يَجعَلَ صِيامَنا مَقبولًا عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَرضَى بِهِ عَنَّا، وأنْ تَزكُوَ بِهِ الأعمالُ، وتَصلُحَ بِهِ الأخلاقُ، وتَطيبَ بِهِ السِّيرَةُ، وتَستَقيمَ بِهِ الأعمالُ، إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ والقادِرُ عَلَيْهِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبيِّنا مُحمَّدٍ.
الحَمدُ لِلَّهِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ.
أمَّا بَعْدُ:
فإجابَةً عَلَى سُؤالِكَ نَقولُ وباللهِ تَعالَى التَّوفيقُ:
الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ حَقيقَتُهُ الشَّرعيَّةُ هُوَ الإمْساكُ عَنِ المُفطِّراتِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشَّمْسِ. وأصُولُ المُفطِّراتِ ثَلاثَةٌ: الأَكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ، قالَ اللهُ -جَلَّ وعَلا-: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البَقَرَةُ:187]، فالإمْساكُ عَنِ المُفطِّراتِ هُوَ الصِّيامُ، لكِنْ هُناكَ صِيامٌ يَشتَرِكُ فِيهِ الناسُ كلُّهُم -وأقصِدُ بالناسِ أهلَ الإيمانِ مِنَ الصَّائمِينَ- وهُوَ أنَّهُم يُمسِكونَ عمَّا حَرَّمَهُ اللهُ تَعالَى مِنَ المُفطِّراتِ مِنْ طُلوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ، وهَذَا الإمساكُ هَلْ هُوَ مَقصودٌ لذَاتِهِ، أم لَهُ غايَةٌ ومَقصُودٌ أبعَدُ مِنْ مُجرَّدِ الامتِناعِ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ والجِماعِ؟
إنَّ حَقيقَةَ الصَّوْمِ أنَّهُ تَزكيَةٌ للنُّفُوسِ وتَربيَةٌ لَها بأعْلَى دَرَجاتِ التَّربيَةِ والتَّزكيَةِ، وذَلِكَ أنَّ الصَّومَ إنَّما شَرَعَهُ اللهُ تَعالَى لتَحقيقِ التَّقوَى، كما قالَ جَلَّ في عُلاهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البَقَرَةُ:183]، وحَقيقَةُ التَّقوَى ورُوحُها أنْ يَجعَلَ الإنْسانُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَذابِ اللهِ وِقايَةً، فهَكَذا تَكونُ مِنَ المُتَّقينَ. وكَيْفَ تَجعَلُ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَذابِ اللهِ وِقايةً؟
أنْ تَفعَلَ ما أمَرَكَ اللهُ تَعالَى بِهِ، وأنْ تَترُكَ ما نَهاكَ عَنْهُ؛ رَغبَةً فِيما عِنْدَهُ -جلَّ وعَلا- وخَوْفًا مِنْ عِقابِهِ؛ وبهَذَا تَكونُ مِنَ المُتَّقينَ.
ومَفهومُ التَّقوَى واسِعٌ، فيَبتَدِئُ أولًا في القُلُوبِ صَلاحًا وطِيبًا وزَكاءً، قالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-: «ألَا وإنَّ في الجَسَدَ مُضْغَةً، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلُّهُ؛ أَلا وهِيَ القَلْبُ»، ولذَلِكَ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- كما في الصَّحيحِ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرَةَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنا، التَّقوَى هَاهُنا»، فليْسَ المَقصودُ مِنْ الصَّوْمِ الامتِناعَ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ دُوْنَ أنْ يُؤثِّرَ هَذَا في الأخْلاقِ زَكاءً، وفي الأعمالِ صَلاحًا، وفي المُعامَلَةِ استِقامَةً، وفي الظَّاهِرِ طِيبًا، وفي الباطِنِ زَكاءً وهِدايَةً ونُورًا، فإذا غابَتْ هذِهِ المَعانِي فإنَّ الصَّوْمَ لم يُؤَدِّ غَرضَهُ، ولم يَكُنْ مُنتِجًا الإنتاجَ المَقصودَ والمَطلوبَ، ولهَذَا جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَِّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قالَ: «مَن لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ، فليْسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَهُ». فقَوْلُهُ: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ» يَعنِي: القَوْلُ الباطِلُ، وقَوْلُ الزُّورِ ليْسَ شِهادةَ الزُّورِ فقَطْ، بَلْ هُوَ كُلُّ قَوْلٍ باطِلٍ وفاسِدٍ، ومَنْ لم يَدَعِ العَمَلَ بِهِ أي: العَمَلُ بالزُّورِ، وهَذَا يَشْمَلُ كُلَّ عَمَلٍ فاسِدٍ ومُحرَّمٍ، صَغيرٍ أو كَبيرٍ في حَقِّ اللهِ وفي حَقِّ العِبادِ، فكُلُّ هَذَا ممَّا مَنَعتْهُ الشَّريعَةُ، فيَنبَغِي للمُؤمِنِ أنْ يُطهِّرَ قَوْلَهُ وعَمَلَهُ مِنْ كُلِّ باطِلٍ لا سِيَّما في صِيامِهِ؛ لأنَّهُ إذا تَلبَّسَ بالباطِلِ والزُّورِ والسُوءِ والشَّرِ في قَوْلٍ أو عَمَلٍ فإنَّهُ لم يُحقِّقْ مَقصُودَ الصِّيامِ؛«مَنْ لم يدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ فليْسَ لِلَّهِ حاجةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ».
وأمْرُ الصَّوْمِ عَجيبٌ، ففِيهِ تَزكيَةُ النُّفُوسِ وتَربيَتُها، ولذَلِكَ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «والصَّوْمُ جُنَّةٌ»، وفي رِوايَةٍ أُخرَى: «والصِّيامُ جُنَّةٌ» أي: وِقايَةٌ مِنَ النَّارِ وعَذابِ اللهِ، لكِنْ هُناكَ وِقايَةٌ مُقدَّمَةٌ للوِقايَةِ مِنْ عَذابِ النَّارِ، ولا يُمكِنُ أنْ تَحصُلَ وِقايَةُ النَّارِ دُونَ وِقايَةِ أعْمالِ أهْلِها، فلذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «والصَّومُ جُنَّةٌ» هُوَ وِقايَةٌ مِنْ أعمَالِ السُّوءِ الَّتِي تُؤدِّي إلى النَّارِ كما أنَّهُ وِقايَةٌ مِنَ النَّارِ.
وأذكِّرُ نَفْسِي وإخوانِي الصَّائمِينَ الَّذينَ قَدْ يَجِدونَ شَيئًا مِنَ العَناءِ في صِيامِهِم بسَبَبِ حَرارَةِ الجَوِّ -ولا سِيَّما مَنْ يَخرُجُ ويَدخُلُ- بَحديثِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فِيما رَواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ: «مَن صامَ يَوْمًا في سَبيلِ اللهِ باعَدَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّارِ سَبعِينَ خَريفًا»، نَسأَلُ اللهَ أنْ يُباعِدَ عَنَّا وعَنْكُمُ النَّارَ.
إذًا نَحنُ نَحتاجُ إلى أنْ نُفعِّلَ ثَمَرةَ الصِّيامِ في أخلاقِنا ومُعامَلاتِنا وأقوالِنا، فالصَّوْمُ يَسْمُو بالإنسانِ ويَرفَعُهُ إلى مَراتِبَ عُلْيا؛ ولذَلِكَ قالَ بَعْضُ الكُتَّابِ: "الصَّوْمُ إرادَةٌ مُستَعليَةٌ". وحَقيقَةً هُوَ إرادَةٌ مُستعلِيَةٌ عَنْ كُلِّ السَّفاسِفِ والرَّذائِلِ والقَبائِحِ، ومُستَعليَةٌ بأنْ تُحلِّقَ في آفاقِ السُّمُوِّ والفَضْلِ، ولهذا جاءَ في الصَّحيحِ أنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «إذا كانَ صَوْمُ يَوْمِ أحَدِكُم فلا يَسخَطْ ولا يَرفُثْ، فإنْ أحَدٌ سابَّهُ أو شاتَمَهُ – أو قاتَلَهُ في بَعْضِ الرِّواياتِ - فليَقُلْ: إنِي امرؤٌ صائِمٌ»، فهَلْ هَذَا لعَجْزٍ في مُقابَلَةِ الإساءَةِ بمِثْلِها فِيما أذِنَ اللهُ؟! لا، لكِنَّهُ السُّمُوُّ الَّذِي يَعلُو إلَيْهِ الصَّائِمُ ويَرتَقِي، فيَتْرُكُ ما لَهُ مِنْ مُقابَلَةِ الإساءَةِ بمِثْلِها - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى:40] إلى الصَّفْحِ والعَفْوِ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأَعْرافُ:199] - بأنْ يَقولَ: إنِّي صائِمٌ، فيُعلِنُ أنَّ الَّذِي كَفَّهُ عَنْ مُقابلَةِ الإساءَةِ بالإساءَةِ هُوَ ما تلبَّسَ بِهِ مِنْ طِيبِ باطِنٍ، وهُوَ الإمْساكُ ونَيِّتُهُ؛ فانعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ وعَمَلِهِ وأخلاقِهِ وسَائِرِ شَأنِهِ، وبهَذَا نُحقِّقُ الصِّيامَ المُنتِجَ. وأنا أَقولُ كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في بَعْضِ الآثَارِ: «رُبَّ صائمٍ ليْسَ لَهُ مِن صَوْمِهِ إلَّا الجُوعُ والعَطَشُ» وهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ فقالَ: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ؛ فليْسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ». نَسألُ اللهَ أنْ يَجعَلَ صِيامَنا مَقبولًا عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَرضَى بِهِ عَنَّا، وأنْ تَزكُوَ بِهِ الأعمالُ، وتَصلُحَ بِهِ الأخلاقُ، وتَطيبَ بِهِ السِّيرَةُ، وتَستَقيمَ بِهِ الأعمالُ، إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ والقادِرُ عَلَيْهِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبيِّنا مُحمَّدٍ.