الجَنَّةُ هِيَ دَارُ النَّعِيمِ الكَامِلِ، الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ لِأَوْلِيَائِهِ المُتَّقِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحينَ، فَهِيَ دَارُ الكَرَامَةِ وَالسَّلامِ، وَقَدْ نَوَّعَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا صُنُوفَ النَّعِيمِ بِمَا يَفُوقُ الوَصْفَ وَالخَيَالَ، فَفِي البُخَارِيِّ (3244) وَمُسْلِمٍ (2824) مِنْ طُرِقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ {فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. وَهَذَا النَّعِيمُ المُقِيمُ يَشْتَرِكُ فِيهِ المُؤْمِنُونَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، وَقَالَ أَيْضًا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}[غافر:40]، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الحَكِيمِ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَصْنَافِ النَّعِيمِ وَأَنْوَاعِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، فِي المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَنَاكِحِ وَالمَلَابِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالمَذْكُورُ مِنْ ذَلِكَ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِمَّا أَعَدَّهُ اللهُ الكَريمُ لِعِبَادِهِ وَأولِيَائِهِ، كَمَا أَنَّ العِبَادَ لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ وَلَا قَدْرَهُ، فَالأَمْرُ كَمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ترْجُمانُ القُرْآنِ: (لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمّا فِي الجَنَّةِ إِلَّا الأَسْمَاءُ)، وَلِذَلِكَ لَيْسَ مِنَ المُنَاسِبِ أَنْ يَدْخُلَ العَبْدُ فِي طَلَبِ تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ، وَما كُشِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَكُنْهُهُ، وَمَا لا يُدْرِكُهُ عَقْلُهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، فَنَعِيمُ الجَنَّةِ لَا يُقَاسُ بِشَيءٍ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا، رَوَى البُخَارِيُّ ( 2892 )، مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّعِيمَ فِي المآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَنَاكِحِ، مُخْتَلِفٌ عَمَّا عَهِدَهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا. وَفِي البُخَارِيِّ (3246) وَمُسْلِمٍ (2834) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، لاَ يَسْقَمُونَ، وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، وَلاَ يَبْصُقُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمْ الأَلُوَّةُ"، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الدُّنْيَا، نَسْأَلُ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ . وَأَمَّا بِخُصُوصِ مَا سَأَلَتْ عَنْهُ مِنْ تَبْدِيلِ الزَّوْجِ فِي الآخِرَةِ، أَوْ الاقْتِرَانِ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ تُحِبِّينَ، فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا دَخَلَا الجَنَّةَ تُبَدَّلُ أَوْصَافُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلى السُّرُورِ التَّامِّ، الَّذِي لَا تَنْغِيصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَهَذَا مِنْ مَعَانِي مَا وَرَدَ مِنَ الدُّعَاءِ النّبَوِيِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازة: "وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ" رواه مسلم (963) مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جَنَازِةٍ قَالَ: فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ. فَإِنَّ التَّبْدِيلَ نَوعَانِ: الأَوَّلُ: تَبْدِيْلُ عَيْنٍ، إِذَا كَانَ أَحَدُهُما مَحْبُوسًا عَنِ الجَنَّةِ، فَيُزَوَّجُ غَيْرَ زَوْجِهِ فِي الدّنْيَا. الثَّانِي: تَبْدِيلُ وَصْفٍ، بِأَنْ يُكَمَّلَ فِيهِ كُلُّ وَصْفٍ مَحْبُوبٍ، وُيُخَلَّى عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مَكْرُوهٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّها تُبَدَّلُ غَيْرَ زَوْجِهَا إِنْ شَاءَتْ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:35]، وَلِقَوْلِهِ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71]، وَقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}[فصلت:31]، وَيُؤَيِّدُهُ القَولُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ المَدْعُوَّ بِهِ لِلْمَيِّتِ تَبْدِيلٌ عَيْنِيٌّ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ مِنْ أَنَّها تَكُونُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا، كَمَا فِي المُعْجَمِ الأَوْسَطِ (3130) مِنْ حَدِيْثِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا» فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَالمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا - جَعَلَنَا اللهُ فِيهِم - فِي غَايَةِ النَّعِيمِ، نَعِيمِ القُلوبِ وَالأَرْوَاحِ وَالأَبْدَانِ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وَقَدْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قُلُوبِهِمْ كُلَّ غَيْظٍ وَغِلٍّ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ (3245) ومسلم (1625) مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي وَصْفِ أَوِّلِ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: "لَا اخْتِلافَ بَيْنَهُم وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُم قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا". وَأَمَّا هَلْ يُكُونُ للنِّسَاءِ فِي الجَنَّةِ عِدَّةُ أَزْوَاجٍ؟ فَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَعِيمَ الآخِرَةِ مِنْ أُمُورِ الغَيْبِ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَسُوغُ فِيهَا القِيَاسُ. وَفَي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ السَّابِقِ، فِي وَصْفِ أَوَّلِ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا اخْتِلاَفَ بَيْنَهُمْ وَلاَ تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» لِدَفْعِ تَوَهُّمِ التَّأَذِّي بِسَبِبِ المُشَارَكَةِ فِي الزَّوجِ، كَمَا هُوَ الحَالُ فِي الدَّنْيَا. وَلَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَالَ: إِنَّ المَرْأَةَ تُزَوَّجُ بِعِدَّةِ أَزْوَاجٍ، بَلْ ظَاهِرُ القُرآنِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ؛ لِكَونِهِ نَقْصًا، وَالمَرْأَةُ لَا تَقْبَلُ الشَّرِكَةَ، كَمَا قَالَ السُّيُوطِيُّ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الحُوْرِ العِيْنِ بِقَولِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:56]، وَنِسَاءُ الدَّنْيَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوْلَى مِنْهُنَّ بِكُلِّ مَنْقَبَةٍ وَفَضِيلَةٍ. ثُمَّ إِنَّ النَّافِعَ وَالمُفِيدَ لِلمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ، أَنْ يَجْتَهِدَا فِي العَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَلَّا يَتْرُكَا لِلشَّيْطَانِ سَبِيلًا يُوَسْوِسُ مِنْ خِلالِهِ، فَيَعُوقُهُمَا عَنْ صَالِحِ العَمَلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
أخوكم
أ.د خالد المصلح
15/ 7/ 1427هـ.