الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ حَمْداً كَثيراً طَيِّباً مُباركاً فِيهِ وأَشْهدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وحدهُ وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُ اللهِ ورسُولهُ اللهُمَّ صلِّ عَلَى محمَّدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ كَما صلَّيتَ علَى إِبراهيمَ وعلَى آلِ إبراهيمَ إِنكَ حميدٌ مجيدٌ أَمَّا بعدُ : فَالسلامُ علَيْكُمْ ورحمةُ اللهِ وَبركاتهُ وأَهْلاً وسَهْلاً بكُمْ أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ في هذهِ الحلقةِ الجديدةِ مِنْ بَرنامجكُمْ فَإِني قريبٌ في هذهِ الحلقةِ نَتناولُ شَيْئاً مِنْ أَدعيةِ الأَنبياءِ صلواتُ اللهِ وَسلامُهُ عليهمْ دُعاءُ ذي النُّونِ يونسَ عليهِ السلامُ مِنْ أَشهرِ الأدعيةِ معرفةً بينَ الناسِ يُونُسُ عليهِ السلامُ نَبيٌ كريمٌ مِنْ أَنْبياءِ اللهِ تَعالَى قَصَّ اللهُ خبرهُ في القُرآنِ حيثُ قالَ جلَّ في عُلاهُ ( وَإِنَّ يُونُسَ لمنَ المرسلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلكِ المشحونِ ) : أيْ خَرجَ عَلَى وجهٍ غيرِ مَرْضِيٍّ لربِّ العالمينَ فَساهمَ فَكانَ مِنَ المدْحضينَ ذلِكَ الفُلْكُ لم يكُنْ يحتمِلُ كُلَّ منْ عليهِ فاستهمُوا ليلْقُوا مَنْ يُتَخففُ بإلقائهِ فأصابتِ القُرْعةُ يونسَ عليهِ السلامُ فأُلْقِي في البحرِ فالتقمَهُ الحُوتُ وهُوَ مليمٌ أيْ علَى حالٍ يُلامُ علَيْها لكنْ سابق طاعته وسابق ما كان عليهِ مِنْ صَلاحٍ نفعهُ اللهُ تعالَى بهِ , تعرفْ علَى اللهِ في الرَّخاءِ يعرفْكَ بِالشدةِ فلوْلا أنهُ كانَ منَ المسبحينَ الذاكرينَ المصلينَ القائمينَ بحقِّ اللهِ تَعالَى للبثَ في بطنهِ إِلَى يومِ يُبعثونَ أيْ لصَار بَطْنُ الحوتِ لهُ قبْراً إِلَى يومِ القِيامةِ فَلَمَّا التقمهُ الحوتُ لم يكُنْ لهُ مَفزعٌ ولامهربٌ وَلا ملْجأٌ إِلَّا إِلَى اللهِ جلَّ في عُلاهُ كَما قالَ اللهُ تَعالَى ( وَذا النُّونِ إِذْ ذهبَ مُغاضِباً فظنَّ أَنْ لنْ نقْدِرَ علَيْهِ ) فَماذا كانَ منْهُ ( فنادَى في الظُّلُماتِ ) ظلماتُ البحرِ, وَظُلماتُ الليلِ , وَظُلماتِ بَطْنِ الحوتِ , وظُلماتُ الوحشةِ , وظلماتُ الخوفِ ظُلماتٌ بَعْضُها فوْقَ بعضٍ فنادَى في الظُّلماتِ أَنْ لا إلهَ إِلَّا أنتَ سُبحانكَ إِني كنتُ مِنَ الظالمينَ فَجاءهُ الفرجُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ بهذا التوسلِ الذي تضمَّنَ وسيلتينِ الأُولَى : توحيدُ اللهِ تعالَى وتنزيههُ لاإلهَ إلَّا أنتَ , لا يستحقُّ العبادةَ أَحَدٌ سواكَ , وَلا يُطاعُ إِلَّا أَمْرُكَ ,وَلا يتوجَّهُ إِلَّا إِليكَ, سُبحانكَ فأنتَ المنزَّهُ عنْ كلِّ عيبٍ وعنْ كلِّ نقصٍ وعنْ كلِّ مماثلةٍ إني كُنتُ مِنَ الظالمينَ وهذهِ هِيَ الوسيلةُ الثانيةُ أنهُ توسَّلَ إِلَى اللهِ تعالَى بِإقرارهِ بِذنبهِ أَنهُ وقَعَ في الظلمِ وتلبس في ما يُغضبُ الربَّ جلَّ في علاهُ ( إني كنتُ مِنَ الظالمينَ ) فشَكَى إِلَى اللهِ عزَّ وجلَّ حالَهُ وتضرَّعَ إِليهِ بهذهِ الضَّراعةِ الَّتي تضمَّنَتْ غايةَ التعظيمِ للهِ عزَّ وجلَّ بتوحيدهِ وتنزيههِ وغايةِ الذُّلِّ بِالإقرارِ بِالذنبِ والاعترافِ بالتقصيرِ والقُصُورِ , ( فنادَى في الظُّلماتِ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ سُبحانكَ إني كنتُ مِنَ الظالمينَ ) هذهِ دعوةُ ذي النونِ عليهِ السلامُ ( قالَ فيهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ دعوةُ ذي النونِ إِذْ دَعا وهُوَ في بطنِ الحوتِ لاإلهَ إِلَّا أنتَ سُبحانكَ إِني كنتُ مِنَ الظالمينَ ) فكانتْ النتيجةُ بعدَ دُعائِهِ وَاستغاثتهِ باللهِ عزَّ وجلَّ الفرجَ وَالنجاةَ ونجيناهُ مِنَ الغمِّ وكذلِكَ نُنْجِي المؤمنينَ :أَيْ بمثلِ ما أَنجينا يونسَ عليهِ السَّلامُ مِنْ تَوْحيدِ اللهِ تعالَى وتنزيههُ والإقرارُ بالذنوبِ وَالخطايا نُنْجي كُلَّ مؤمنٍ يتوسلُ إِلينا بمثلِ ذلِكَ فإذا كنتُ في شدِّةٍ فاللهُ يُنقذُكَ مِنْها إِذا فزِعْتَ إليهِ وَإِذا كُنتَ في ظُلمةٍ أَوْ كُربةٍ فاللهُ يخرجكَ مِنْها إِذا كنتَ مخلِصاً في طلبِ مرضاةِ ربكَ لا تقصدُ إِلَّا هُوَ فاللهُ جلَّ في علاهُ ملجأِ الخائفينَ وهوَ مجيرُ المستغيثينَ وَهوَ مجيبُ دعوةُ المضَّطرينِ سُبحانَهُ وَبحمدِ هَكَذا أنْعَمَ اللهُ تعالَى علَى يونسَ عليهِ السلامُ يقولُ اللهُ تعالَى في صفةِ إِخراجهِ ( فنبذناهُ في العراءِ وهُوَ سقيمٌ وأَنبتْنا عليهِ شجرةً مِنْ يقْطينٍ وأرسلْناهُ إِلَى مائةِ ألفٍ أوْ يزيدُونَ فمتعناهُمْ إِلَى حينٍ ) تلْكَ العِنايةُ والرعايةُ وذلكَ الحفظُ والصيانةِ إنهُ مِنْ بَركاتِ ذلكَ الدُّعاءِ الصَّادرِ بإخلاصٍ واضِّطرارٍ إلَّا اللهُ تعالَى وهَكَذا ينبغِي أنْ يكُونَ المؤمنُ في حالاتِ الاضِّطرارِ أَنْ لا يكُونَ لهُ مهربٌ ولا مَفزعٌ إِلَّا اللهُ جلَّ في عُلاهُ مُتوسِّلاً إليهِ في توْحيدهِ وتعظيمهِ ولِذلكَ جاءَ في الصَّحيحينِ مِنْ (حديثِ ابنْ عباسٍ – رضِيَ اللهُ عنهُما – أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم كانَ إِذا أصابهُ كرْبٌ قالَ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ العظيمُ الحليمُ لا إلهَ إِلَّا اللهُ ربُّ السمواتِ وربُّ الأَرْضِ وربُّ العرشِ العَظيمِ ), أيُّها الإخوةُ والأَخواتُ زكريا عليهِ السَّلامُ نبيٌّ مِنْ أَنْبياءِ اللهِ الكرامِ تَقاربَ أجلِهِ وَشابَ رأْسَهُ ولم يُرْزَقْ بِولَدٍ فلَمْ يجدْ مَفْزعاً وَلا مَلْجَئاً إِلا أنْ يلْجَأَ إِلَى اللهُ تَعالَى الَّذِي بيدهِ مَلكوتُ كلِّ شيئٍ وهُوَ يجيرُ وَلا يجارُ علَيْهِ الَّذِي ( يهِبُ لمنْ يَشاءُ إِناثاً وَيهَبُ لمنْ يَشاءُ الذُّكورَ * أوْ يزوجهُمْ ذُكرانا وإناثا ويجعلُ مَنْ يشاءُ عقيما) قالَ اللهُ تَعالَى فِيما قصَّهُ مِنْ نبأ زكرِيا : ( وزكريا إِذ نادا رَبَّهُ ربِّ لا تذرْني فرْداً وأنتَ خيرُ الوارثينَ ) إنَّهُ نادَى اللهَ تعالَى وتضرعَ إليهِ وابتهَلَ إليهِ أنْ لا يتركهُ بِلا وَلدٍ وتوَسَّلَ إليهِ بأَنَّهُ جَلَّ وَعَلا خيرِ الوارثينَ وقَدْ ذَكرَ اللهُ تَعالَى قِصَّةَ مناجاةِ زكريا ربهِّ في شأْنِ الولدِ في بِشيءٍ مِنَ البسطِ في سورةِ مريمَ فقالَ : ( ذِكْرُ رحمةِ ربِّكَ عبدهُ زكريا * إِذْ نادىَ ربهُ نَداءاً خفِيًّا ): بِلا رفْعِ صوْتٍ وَلا ضجيجٍ ولا غيرهِ مِما يندرجُ في الاعتداءِ في الدُّعاءِ ( قالَ رَبِّ إِني وهَنَ العظْمُ مِنِّي واشتعلَ الرأْسُ شَيْبا * ولم أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِياً *وإني خِفتُ الموالي مِنْ وَرائي وَكانتِ امرأَتي عاقرا فهب لي مِنْ لدُنْكَ وَلِياً * يَرِثُني ويرثُ منْ آلِ يَعْقُوبَ واجعلهُ ربِّ رَضِيَّاً ) تأمَّلْ هذهِ الدَّعوةَ كيفَ كانَتْ في غايةِ الضَّراعَةِ إِلَى اللهِ عَُزَّ وَجَلَّ والتوسلِ إليهِ بما يوجبُ العطاءَ يَقُولُ زكريا ربِّ إني وَهَنَ العظمُ مِنِّي : أَيْ ضَعُفَ عَظْمِي ورقَّ لكبرِ سِنِّي وَتَقَدَّمَ عُمري إنهُ تضَرَّعَ إِلَى اللهِ تعالَى بشيبهِ فَقال واشتعلَ الرأْسُ شَيْباً :أَي ابيضُّ شعرُ رأْسهِ ولم يَبقَ فِيهِ إِلَّا قليلٌ منَ السَّوادِ ولم أَكُن بِدُعائِكَ ربِّ شقِيا : وهاتانِ الوَسيلتانِ وَهَنُ العظمِ واشتعالُ الرأسِ فِيهما بَيانُ عظيمِ الفاقةِ وَالاضَّطرارِ وَالحاجَةِ إِلَى المسأَلَةِ الَّتي يسأَلُها اللهَ عزَّ وجلَّ ثُمَّ توسلَ إليهِ بِوسيلَةٍ ثالِثَةٍ وَهِيَ ما كانَ عليهِ ربُّ العالمينَ مِنْ إِحْسانٍ , توسلّ إليهِ بفعلهِ ثُمَّ توسَّلَ إليْهِ بصفةٍ ثالثةٍ وهوَ فعلهُ جلَّ وَعَلا فقالَ سُبحانهُ وبحمدهِ ( ولم أكنْ بِدعائكَ ربِّ شقِياً ) : أيْ ياربُّ عودْتني الإِجابَةَ وعرفتُ منكَ الإِحْسانَ وَالعَطاءَ فأَنتَ الكريمُ المنَّانُ , قالَ وَإِنِّي خِفْتُ الموالي ثُمَّ عادَ إِلَى التوسلِ بحالهِ وهُوَ خوفهُ الورثةَ مِنْ بعدِ موتهِ أنْ يُغيرُوا أوْ يُبدلُوا شَيْئأً مما شرعهُ اللهُ تعالَى وكانتِ امرأتي عاقرا : أَيْ لا تلِدُ فهب لي مِنْ لدُنك وَلِياً : أيْ ارزقني مِنْ لديكَ ابناً يكُونُ لي وَلِياً وقَرِيباً يرِثُني ويرثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعلهُ ربِّ رضيا : أيْ واجعلهُ عبْدًا صالحاً وتحبُهُ وَتتولاهُ والحاصلُ أَنَّ زكريا سأَلَ اللهَ وَلَداً ذكَراً صالحاً يبقى بَعْدَ موتِه يَكُونَ وَلِياً مِنْ بَعْدِهِ وَيكُونُ مَرْضِياً عندَ اللهِ تَعالَى وعندَ خلقهِ وهذا أَفْضَلُ ما يكونُ مِنَ الأَوْلادِ فإِنَّ مِنْ رحمةِ اللهِ تَعالى لِعبدهِ أَنْ يرزقَهُ ولَداً صالحاً جامِعاً لمكارمِ الأَخْلاقِ ومحامِدَ الشيمِ فرحمهُ اللهُ تعالَى فَكانَ جَوابُ رَبِّ العالمينَ : ( يا زكريا إِنَّا نُبشِّرُكَ بِغُلامٍ اسمهُ يَحْىَ لم نجعلْ لهُ مِنْ قبْلُ سَمِيا) : أيْ لم يُسمَّ أحداٌ بهذا الاسْمِ قبلهُ ثُمَّ قالَ زكريا مُستغْرِباً إحسانَ اللهِ إليهِ وَإِجابَةَ دُعائِهِ في هذهِ الحالَةِ الَّتي يَبْعُد أنْ يكُونَ فِيها وَلد قالَ ربِّ ( أَنَّى يكُونُ لي غُلُامٌ وكانَتِ إمرأتي عاقرا وقدْ بلغتُ مِنَ الكبرِ عِتِياً ) إنَّهُ يَذكرُ استبعادَ الجوابِ لما توسَّلَ بِهِ في سؤالهُ وَكانتِ امرأَتي عاقرا وقَدْ بلغْتُ مِنَ الكبرِ عِتِيا ,قالَ ربُّ العالمينَ , ( كذلكَ قالَ ربكَ هُوَ عليَّ هيِّنٌ وقدْ خلقتُكَ مِنْ قبلُ ولم تكُ شَيْئاً) ثُمَّ سألَ اللهَ تعالَى آيةً وعلامهً فقالَ ( ربِّ اجعلي آيةً قالَ آيتكَ أنْ لا تكلمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سوِيَّا * فخرجَ علَى قومهِ مِنَ المحرابِ فأَوْحى إليهِمْ أنْ سبحِوا بُكْرةً وعَشيا ) فهَذا ما قصهُ اللهُ تَعالَى في كِتابهِ مِنْ خبرِ دُعاءِ يونسَ وزكريا عليهما أَفضلُ الصلاةِ والسلامِ أَسألُ اللهَ العظيمَ أنْ يجعلَ ما علِمنا حجةً لَنا لا حُجةً عليْنا إِلَّا أَنْ نلقاكُمْ في حلقةٍ قادمةٍ مِنْ بَرنامجكُمْ فَإِنِّي قريبٌ أَسْتودعكُمُ اللهَ الَّذي لا تضِيعُ ودائعهُ والسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ






