الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طِّيباً مُباركاً فِيه , كَما يحبُّ ربُّنا ويرضَى أحمدُهُ حَقَّ حمدهِ لا أحْصِي ثناءً عليهِ هُوَ كَما أَثْنَى علَى نفسهِ وأشهدُ أَنْ لا إِلهَ إلَّا اللهُ إِلهُ الأَوَّلِينَ والآخرينَ , لا إلهَ إِلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ وأشهدُ أَنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ صفيهُ وخليلُهُ خيرتهُ مِنْ خلقهِ اللهُمَّ صلِّ علَى محمدٍ وعلَى آلِ محمَّدٍ كَما صليْتَ عَلَى إبراهيمَ وَعَلَى آلِ إِبراهيمَ إِنَّكَ حميدٌ مجيدٌ , أَمَّا بَعْد : فالسلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ وأَهْلاً وسهْلاً بكُمْ أَيُّها الإخوةُ والأَخواتُ في هذهِ الحلقةِ الجديدةِ مِنْ برنامجكُمْ فَإني قريبٌ هذهِ الحلقةُ هِيَ آخِرُ مَحطَّاتِ هَذا البرنامَجِ الَّذِي طوَّفْنا فيهِ منْ خِلالِ تِسْعٍ وَعشرينَ حَلَقَةً حولَ قَولهِ تَعالَى , فإنِّي قريبٌ تِلْكَ الآيةُ الَّتي ذكرَ اللهُ تَعالَى فِيها جوابَ سُؤالِ السائلينَ وَإِذا سألكَ عِبادي عنيِّ فإني قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الدَّاعِي إِذا دعانِ فلْيستجِيبُوا لي وليؤمِنُوا بي لعلهُمْ يَرشُدُونَ , في تلكَ الحلقاتِ تَناولْنا معْنَى الدُّعاءِ وَمنزلتهُ وأَنْواعَهُ وأَنَّ الدُّعاءَ هُوَ العِبادةُ وصُلْبُها هُوَ رُوحُها هُوَ مقصودُها هُوُ أظهَرُ مَعانِيها سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بِدُعاءِ سُؤالِ قضاءِ الحاجاتِ وَبُلُوغِ الرَّغَباتِ وَإِغاثَةِ اللَّهَفاتِ وَكَشفِ الكُرُباتِ أَوْ كانَ ذلِكَ بِدُعاءِ الثَّناءِ وَالتمْجِيدِ أَوْ كانَ ذَلِكَ بِدُعاءِ العِبادَةِ الَّذِي يشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ سَواءٌ كانَ ذلكَ في صَلاةٍ أو زكاةٍ أو صَوْمٍ أو حَجٍّ أوْ كانَ ذلِكَ في الأَعْمالِ الظاهِرَةِ أَوِ الأعْمالِ الباطِنَةِ كُلُّ ذلِكَ دُعاءٌ , فَما مِنْ عامِلٍ وَلا عابِدٍ يتقربُ إِلَى اللهِ تَعالَى إلا ويَرْجُوا مِنْهُ شَيئا ويسألهُ جَلَّ في عُلاهُ مِنْ فضْلِهِ يُسابِقُ إِلَى رحمتِهِ وَيَسأَلُهُ مِنْ عطائهِ إِنَّ لِلدُّعاءِ أَدابا ينبغِي أَنْ يَستحضِرَها الدَّاعِي لِيفوزَ بمطْلُوبِهِ وَيَنالَ مَسْؤلَهُ , مِنْ إِخْلاصِ القصْدِ وَالنيةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فاللهُ تَعالَى يَقُولُ ( وأنَّ المساجدَ للهِ فَلا تدعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ) الدُّعاءُ لَهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيعْبُدُوا اللهَ مخلصينَ لَهُ الدَّينَ حُنفاءَ ) فَلا يجوزُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى غيرهِ فَمَنْ صَرفَ الدُّعاءَ إِلَى سواهُ سَواءٌ كانَ ذلِكَ في دُعاءِ العِبادةِ أوْ في دُعاءِ المسألَةِ فقَدْ وَقَعَ في الشِّرْكِ الَّذي جائَتِ الرُّسلُ وأُنزلَتِ الكُتُبِ لإِبْطالِهِ وَإِخْراجِ الناسِ مِنْ ظُلماتِهِ وَبيانِ شؤْمِهِ عَلَى الإِنْسانِ في الدُّنْيا وَسُوءِ مآلِ أهْلِهِ في الآخرةِ كَما قالَ تَعالَى ( إِنَّهُ مِنْ يُشركَ باِللهِ فقدْ حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنةَ وَمئواهُ النارُ وَما لِلظالمينَ مِنْ أَنْصارٍ ) إِنَّ أؤلائكَ الَّذِينَ يَهْتفُونَ بأَسْماءِ المخْلُوقاتِ وَما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الملائكَةِ والنبيينَ وَالشُّهداءِ وَالصَّالحينَ أَوْ غيرِ ذَلكَ أَوْ يَهْتِفُونَ بِغَيْرِ ذلكَ مِنَ المخلُوقاتِ كالشمسِ وَالقمرِ وَغيرِ ذلكَ مِنَ الأَصْنامِ وَالأَوْثانِ كلُهِّمْ في ضَلالٍ مُبينٍ كَما قالَ تعالَى ( وَمِنْ أَضلُّ ممنْ يَدْعُوا مَنْ دُونِ اللهِ مِنْ لا يسْتِجيبُ لهُ إِلَى يومِ القِيامَةِ وهُمْ عَنْ دُعائِهمْ غافلُونَ ) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لهمْ أَعْداءً وكانُوا بِعبادتهِمْ كافرينَ فَسَمَّى اللهُ تَعالَى دُعاءَ أُؤلاءِ مَنْ لايستجيبُ لهُ إلى يومِ القِيامةِ سماهُ عِبادةً وبهذا يتبينُ أَنْ أُؤلائِكَ الذينَ يهتفُونَ بِأَسْماءِ المخلُوقاتِ في قَضاءِ حاجاتهمْ وَإِغاثَةِ لهفاتهِمْ وَكَشْفِ كُرباتهِمْ وَتحقِيقِ مَأْمُولاتهِمْ إِنَّهُمْ يَعْبُدونَ غَيْرَ اللهِ تَعالَى وَلَوْ قالُوا لا إلهَ إلا اللهُ بألسنتهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ خلَتْ مِنْها قُلُوبهمْ لا يمكِنُ أَنْ يجتمِعَ في قلْبِ عَبْدٍ مَعْنى لا إلهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّهُ لا مَعْبُودَ بحقٍّ سواهُ ثُمَّ يتوجَّهُ بِالدُّعاءِ إِلَى غيرِ اللهِ تَعالَى اللهِ لا إلهَ إِلَّا هُوَ فَلا يقصدُ غيرهُ في عِبادِهِ , وَلا في سُؤالِ ,وَلا في طلَبٍ , وَلا في رغبةٍ , وَلا في توكُّلٍ , وَلا في اعتمادٍ , وَلا في إِخْباتٍ , وَلا في حُبٍّ , وَلا في خوفٍ ينبغِي للمؤمِنِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى هَذِهِ الكلَمَةِ وأَنَّها لَيْستْ كَلِمَةً تُقالُ وَتَتَرَدَّدُ في الأَلْسِنَةِ دُونَ فَهْمٍ مَعْناها إِنَّها كلمةٌ عظيمةٌ إِنَّها مَقْصُودُ الخلْقِ كَما قالَ اللهُ تعالَى( وَما خلقتُ الجنَّ وَالإنسَ إِلَّا ليعبدُونِ ) وكَما قالَ تَعالَى ( وَما أَرْسلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٌ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إلهَ إِلَّا أَنا فاعبدُون ) هذهِ الكلمَةُ بَعثَ اللهُ بها المرْسلِينَ كَما قالَ جَلَّ في عُلاهُ ( أَنْ أَنْذِرُوا أنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنا فاعبدُونِ ) فحقُّهُ جلَّ في عُلاهُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ وَالدُّعاءُ بِهِ يُظْهَرُ صِدْقَ عِبادة اللهِ تَعالَى أُؤلائِكَ الَّذِينَ يَأْتُونَ إِلَى المقْبُورينَ أَوْ يَدْعُونهُمْ عَنْ بُعْدٍ يستغيثونَ بهمْ في الملُمَّاتِ وَيطْلُبونَ عونهمْ في الحاجاتِ وينزلُونَ بهمُ المأْمُولاتِ أُؤلائِكَ في ضَلالٍ مبينٍ , إِنَّهُمْ يمموا إلى غيرِ اللهَِ تَعالَى إِلَى فُقراءَ مساكِينَ كَما قالَ تَعالَى ( أُولئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبتغُونَ إِلَى ربهمْ الوَسيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْربُ وَيرجُونَ رحمتهُ وَيخافُونَ عَذابهُ ) إنهُمْ فُقراءُ إِنَّهُمْ عِبادٌ مِنْ عِبادِ اللهِ لا يملِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَراً وَلا نَفْعا سَيِّدُ ولَدِ آدمَ في حياتِهِ يأْمُرُهُ اللهُ تَعالَى أَنْ يَقُولَ للناسِ بِدُونِ تَردُّدٍ وَلا تلَكُّكٍ ( وَ لَوْ كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ مِنَ الخيرِ وَما مَسَّنيَ السُّوءُ إِنْ أَنا إِلَّا نَذِيرٌ وَبشيرٌ لِقومٍ يؤْمِنُونَ ) أَيُّها الإخْوَةُ والأَخَواتُ الإِخْلاصُ رَأْسُ آدابِ الدُّعاءِ لأنَّهُ رُوحُ الدُّعاءِ ولُبُّهُ وأَساسُهُ وَمَقْصُودُهُ ثُمَّ يأْتي بَعْدَ ذَلِكَ جملةٌ مِنَ الآدابِ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يحرصَ عَلَى إِرْتسامِها لِيُحَقِّقَ بذالكَ أَوصافَ الدُّعاءِ المقْبُولِ مِنَ البِدائَةِ بِالثناءِ علَى اللهِ وَتحميدِهِ وتمجيدِهِ وَتَقْدِيسِهِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ وعلَى وَعَلَى آلهِ وصحبهِ وسلَّم ثُمَّ إِظْهارُ الإفْتقارِ إِلَى اللهِ تَعالَى وخفضِ الصوتِ في الدُّعاءِ والصدقِ الإجمالُ في الطلبِ والصدقِ في الرغبةِ وحُسْنِ الظنِّ بِاللهِ تَعالَى وأَنْ يكُونَ الدُّعاءُ عَلَى طَهارةٍ وأنْ يُوقِنَ بِالإجابَةِ وأَنْ لا يَدْعُوا بإثمٍ وَلا قَطِيعَةِ رَحَمٍ وأنْ لا يَسْتَبْطِأَ الإِجابَةَ وَغَيْرِ ذلكَ مِنَ الأَوْصافِ الَّتي هِيَ مُوجِباتُ وأَسْبابُ إِجابَةِ الدُّعاءِ أَيُّها الإِخْوةُ والأَخواتُ الدُّعاءُ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبابِ وأَقْوَى الأَسْلِحَةِ الَّتي تُدْرَكُ بِها المطالِبُ وَقَدْ قَصَّ اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ خَبَرَ دُعاءِ الأَنْبيِاءِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ علَيْهِمْ وَكَذلكَ أَخْبَرَ عَنْ دُعاءِ عبادِهِ الصَّالحينَ وَكَيْفَ كانَ ذَلِكَ سَبَباً لإدراكِ المطالبِ ,وَالنجاةِ مِنَ المهالِكِ , وَالفَوْزُ بخيرِ الدُّنْيا وَالآخرةِ وَهُنا أُسَجِّلُ هَذِهِ الملاحَظةَ أَنَّ كُلَّ ما ذكرهُ اللهُ تَعالَى مِنْ أَدْعيةِ النبيينَ صَلواتُ اللهِ وَسلامَهُ علَيْهمْ يَدُورُعلَى إِظْهارِ الدِّينِ , وَحَفِظَهُ , وَنُصرتِهِ , وَصِيانَتِهِ مِنْ كُلِّ ما يُهِدِّدُهُ , فمُجْمَلُ ما ذكَرهُ اللهُ تَعالَى مِنْ أَدْعِيةِ النبيينَ وَالصَّالحينَ دائرٌ عَلَى هَذِهِ المعاني فَهُوَ للهِ في اللهِ وَبِاللهِ وَعَلَى اللهِ لمْ يكُنْ حَظُّ أنْفُسِهِمْ ظاهِراً جلِياً في تِلْكَ المسائِلِ والأَدْعيةِ وَهَذا لا يعْني أَنْ لا يَسْأَلَ الإِنْسانُ ما أَحلَّهُ اللهُ تَعالَى لهُ بلْ يَسْألُ اللهَ تعالَى كُلَّ دَقِيقٍ وَجليلٍ كَما جاءَ في الأَثَرِ ( سلُو اللهَ كُلَّ شَيءٍ حتَّى شِسْعَ النَّعْلِ فإنهُ إِذا لم يُيَسِّرْهُ اللهُ تَعالَى لم يَتَيَسَّرِ ) الدُّعاءَ أَيُّها الإخوةُ والأَخواتُ سَببٌ عظيمٌ لإدراكِ المطالِبِ أَيُّها الإخوةُ والأَخواتُ : إِنَّ مما يُشْكَلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ الصِّلَةَ بينَ الدُّعاءِ والقدَرِ , الدُّعاءُ مِنْ جُملةِ ما قدَّرهُ اللهُ تعالَى فلَيْسَ شيءٌ بِالكَوْنِ إِلَّا وهُوَ بِقضاءٍ وقدَرٍ ومِنْ ذَلِكَ أَدْعِيَةُ الدَّاعِينَ وَمسائلُ السائلينَ واسْتِغاثَةُ المستغيثينَ كلُّ ذلِكَ بِقَدَرِ اللِه عزَّ وَجَلَّ ( إِنَّ كُلَّ شَيئٍ خلقناهُ بِقَدَرٍ ) وَقَدْ أَخْبَر اللهُ تَعالَى أنهُ خالِقُ كُلِّ شيءٍ كَما قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا ( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ) وَمِنْ ذلِكَ الدُّعاءُ وَمِنْ هَذا الأَصْلِ يمكِنُ أَنْ ننطلِقَ في فهْمِ قَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فيما رَواهُ الترمذِيُّ وَغيرهُ منْ حديثِ سلْمانَ الفارِسِيِّ – رَضِيَ اللهُ عنهُ – ( لا يَرُدُّ القَضاءَ إِلَّا الدُّعاءُ وَلا يزيدُ في العُمْرِ إِلَّا البرُّ ) وقَدْ جاءَ في نَظِيرِ ذلِكَ في سننِ ابْنِ ماجَهْ ومُسْندِ الإِمامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبانَ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ (لا يزيدُ في العُمَرِ إِلَّا البِرُّ وَلا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعاءَ ) لَكِنْ رَدُّ الدُّعاءِ للقَدَرِ هُنا لَيْسَ مَعْناهُ أَنَّ الدُّعاءَ خارجٌ عَنِ القَدَرِ أَوْ أنَّهُ ليسَ مُقَدَّراً بَلِ الدُّعاءُ مِنَ القَدَرِ ,وَأَضْرِبُ لِذلِكَ مَثَلاً يُصِيبُ الإِنْسانَ ما يُصِيبهُ مِنَ الأَمْراضِ وَهَذا بِقَدَرِ اللهِ تَعالَى كَما قالَ جَلَّ في عُلاهُ ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبةٍ في الأَرْضِ وَلا في أنفُسِكُمْ إِلَّا في كِتابِ مِنْ قَبْلَ أَنْ نَبْرأَها إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرٌ) ثُمَّ يَطْلُبُ دَفْعَ هَذا الداءَ بِما أنزلهُ اللهُ تَعالَى مِنْ دَواءٍ كَما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ ( ما مِنْ داءٍ إلا أَنزلَ اللهُ لهُ دَواءٌ علمهُ مِنْ عَلْمِهِ وَجَهَلِهِ مِنْ جَهْلِهِ ) فَما مِنْ داءٍ إِلَّا ولَهُ دواءٌ والدَّواءُ مِنْ قَدَرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ فَإِذا طلَبَ الإِنْسانُ دَفْعَ ما أصابَهُ مِنْ داءٍ بِالدواءِ فإنهُ يَدْفَعُ قَدَرَ اللهِ تَعالَى بِقَدَرِ اللهِ وَهَذا الفِقْهُ فيلمع بينَ الدُّعاءِ وَالقَدَرِ( هُوَ ما أَشارَ إليْهِ عُمَرُ بْنِ الخطابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ فإنَّهُ لما نزلَ الوباءُ في الشَّامِ وكانَ قدْ خرجَ بِأَصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ فَلَمَّا جائَهُ خَبَرُ وُقُوعِ الطَّاعُونِ في الشامِ دَعا المهاجرينِ الأَوَّلِينَ فاسْتشارَهُمْ ثُمَّ دَعا الأنْصارِ ثمَّ دَعا مِنْ دَعا مِنَ النَّاسِ فانْقَسَمَ الناسُ إِلَى قِسميْنَ فَشَرَحَ اللهُ تَعالَى صَدْرَ عُمَرَ أَنْ لا يُقَدِّمَ بِالناسِ عَلَى الشَّامِ , فَقالَ لهُ أَمينُ هذهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبيدَةِ ابْنَ الجراح – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – أفِراراً مِنَ قَدَرِ اللهِ فَقالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قالَها يا أَبا عبيدةَ ثم قالَ نَعَمْ نَفَرُ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهُ ثُمَّ قالَ لهُ : أرأَيْتَ إِنْ كانَ لكَ إبِلٌ فَهبطَتْ وَادِيا لهُ عُدْوَتانِ إِحْداهُما خَصبْةٌ والأُخْرَى جدْبةٌ أَلَيْسَ إِنْ رعَيْتَ الخِصْبةَ رَعَيْتَها بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الجدْبةَ رَعَيْتَها بِقَدَرِ اللهِ ) بَلَى كُلُّ ذَلِكَ بقَدَرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كذلِكَ إِذا دَعا المؤْمِنُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ ما يَدْعُوهُ بِقَدَرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَهُوَ يدفعُ بما قدرهُ اللهُ تعالَى مِنَ الدُّعاءِ ما قدَّرهُ عليهِ مِنَ القَضاءِ لَوْ لم يَكُنْ منهُ دُعاءٌ فالدُّعاءُ سَببٌ مِنَ الأَسْبابِ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبابِ الَّتي تُدْرَكُ بِها المطالِبُ وَلَهُ تأْثِيرُ كَبِيرٌ في إِدْراكِ المرْغُوباتُ وَالسلامةُ مِنَ المكْرُوهاتِ وَهُوَ مِنْ ما جَرَى فِيهِ قَدَرُ اللهِ تعَالَى فَالدُّعاءُ مِنْ أَعظَمِ الأَسْبابِ لِرَدِّ البَلاءِ وَاسْتجْلابِ الرَّحْمَةُ كَما أَنَّ التُّرْسَ سَببٌ لِدَفْعِ السِّلاحِ وَالماءِ سَببٌ لخروجِ النباتِ مِنَ الأَرْضِ وَالدَّواءِ سَببٌ لإزالَةِ الدَّاءِ وَكذلِكَ الدُّعاءُ وَالبلاءُ فَإِنَّ اللهَ تَعالى يدفعُ بِالدُّعاءِ مِنَ البَلاءِ ما لا يَنْدفَعُ بِغيرهِ فَالدُّعاءُ سَببُ كُلِّ خَيرٍ وَفَلاحٍ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ( قالَ مُطَرِّفُ ابنُ عبدِ اللهِ بْنِ الشِّخيرِ أَحدِ أئِمَّةِ التَّابعينَ نظرتُ في هذا الأَمرِ فوجدتهُ مبدأُهُ منَ اللهِ إِحْساناً وتفضُّلًا وتمامُهُ عَلَى اللهِ فهُوَ المتفضِّلُ بِإِتْمام كُلِّ نعمةٍ يقولُ رحمهُ اللهُ ووجدْتُ مِلاكَ ذَلِكَُ الدُّعاءَ أيْ بهِ تُدْرَكُ كُلُّ الخيراتِ وتحصُلُ ) وممَّا ينبغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ القَضاءَ نَوْعانِ قَضاءٌ لا يردهُ رادٌّ وهُوَ القضاءُ المبرَمُ كَما قالَ تَعالَى ( ما يبدَّلُ القولُ لَدَيَّ ) وكَما ( قالَ اللهُ تَعالَى لنبيهِ بِالحديثِ الإلهِيِّ يا محمّدُ إني إِذا قضيتُ قَضاءاً فإنهُ لا يُردُّ ) فذلكَ هُوَ القَضاءُ المبرمُ الَّذي لا مُبَدِّلَ لَهُ وَلا مُغَيِّرَ ومِنْ أَمثلَةِ ذلِكَ قَضاءُ اللهِ تَعالَى عَلَى البشرِ بِالموتِ فإنهُ مَهْما دَعا الإِنْسانُ أَنْ لا يموتُ فَلا بُدَّ أَنْ يموتَ ذاكَ قَضاءَ اللهُ الَّذي لا يُرَدُّ لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ وَلا رادَّ لِقضائِهِ , أَمَّا النَّوْعُ الثاني فَهُوَ القَضاءُ المعلَّقُ الَّذي يجعلَهُ اللهُ تَعالَى مُعَلَّقٌ عَلَى أَمْرِ فهَذا النوعُ مِنَ القَضاءِ يجري فِيهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّغييرُ كَما قالَ اللهُ تَعالَى (يمْحُوا اللهُ ما يشاءُ وَيُثبتُ وعندهُ أُمُّ الكِتابِ ) وَقَدْ جاءَ في الصَّحيحينِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ –رضِيَ اللهُ عَنْهُ – أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّم قالَ ( مَنْ أَحْبَّ أَنْ يُبْسَطَ لهُ في رِزقهِ ويُنْسأَ لهُ في أثرهِ فلْيصِلْ رَحِمَهُ ) فجَعَلَ صِلَةَ الرَّحمِ مِنْ أَسْبابِ طُولِ العُمَرِ وذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعالَى يجعْلُ صِلةَ الرحمِ سَبباً في مَدِّ الأَجلِ وبهِ يُعْلمُ أنَّهُ لا يَرُدُ القَضاءَ إِلَّا الدُّعاءُ كَما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم , أَيُّها الإخوةُ والأَخَواتُ هكَذا نبلُغُ المنتَهَى وأَسْأَلُ اللهَ تَعالَى لي ولَكُمْ حُسْنَ الخِتامِ وأَنْ يَبْلِّغُنا وَإِيَّاكُمْ طيبَ الأَعْمالِ وأَنْ يَرْزُقنا القَبُولَ وَأَنْ يُعِينَنا علَى ذِكرهِ وَشكرهِ وَحُسْنِ عبادتِهِ .كُنتُ مَعكُمْ في ما مَضَى مِنْ حَلَقاتِ هَذا البرنامجِ فَما كانَ فيهِ منْ صوابٍ فذلكَ مَحضُ فضلِ اللهِ وَإحسانهِ وُجودهِ وكرمهِ فلهُ الحمْدُ جَزِيلاً والشكر كثيراً لا أُحصِي ثَناءً عليهِ جلَّ في علاهُ , وَما كانَ فيهِ مِنَ خَطأٍ أوْ نِسيانٍ أوْ زللٍ فذلكَ مِني وَمِنْ قَبْلِي أسألُ اللهَ تعالَى أنْ يتجاوزَ عني وعنكُمْ وأنْ يعفُوا عنَّا الزللَ والخطأَ والتقصيرَ وأنْ يرزُقنا البصيرةَ في الدينِ وأَن يجعلَنا مِن عبادهِ المتقينَ وحزبهِ المفلحينَ وأوليائِهِ الصالحينَ وفي ختامِ هَذا البرنامجِ أستودعكُمُ اللهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعُهُ والسلامُ عليكُمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ .






