السُّؤالُ: ما حُكْمُ مَسِّ المصْحَفِ إِذا كانَ الإِنْسانُ عَلَى الحَدَثِ الأَصْغَرِ أَوِ الأَكْبَرِ؟ يَعْنِي هَلْ يَجُوزُ إِنَّهُ يَقْرَأُ، يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ المصْحَفَ، فَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ يَعْنِي بس.
الجوابُ:
الحمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأُصَلِّى وَأُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بعدُ،
فحياكُمُ اللهُ أَيُّها الإِخْوَةُ وَالأَخَواتُ هَذَا سُؤالٌ مُهِمٌّ، وَيَحْتاجُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ؛ لأَنَّ قِراءَةَ القُرْآنِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمالِ أَهْلِ الإِسْلامِ، القُرْآنُ رِسالةُ اللهِ لَنا فالارْتِباطُ بِهِ وَقِراءَتُهُ هُوَ مِنْ أَجَلِّ القُرُباتِ وَأَعْظَمُ ما يَدُلُّ عَلَى الخَيْرِ، وَيَهْدِي إِلَى البرِّ {إِنَّ هَذَا القُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} سُورَةُ: الإِسْراءِ، الآية (9) فَوَصِيَّتِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ قِراءَةِ القُرْآنِ، بِقَدْرِ إِكْثارِكَ مِنْ قِراءَةِ القُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ تَنالُ مِنْهُ الخَيْرَ، وَالبِرَّ، وَالانْشِراحَ، وَالسعادةَ، والفوزَ في الدُّنْيا، وَالآخِرَةِ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الفائِزِينَ.
قراءةُ القُرْآنِ عِبادةٌ، وَبِما أَنَّها عِبادَةٌ فَنَحْنُ نَرْجِعُ فِيها إِلَى ما جاءَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ، وَقَوْلُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يَتَّصِلُ بِمَسِّ المصْحَفِ للِمُؤْمِنِ، المؤْمُنُ مَطْلُوبٌ مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ تَعالَى في الجُمْلَةِ عَلَى طَهارَةٍ، وَأَيْضا مَسَّ المصْحَفِ، تُطهرُهُ لمسَّ المصحفِ هُوَ مِنَ الأَعْمالِ المطْلُوبَةِ في الجُمْلَةِ، لِكَوْنِهِ تَعْظِيمًا لهذا الكِتابِ قالَ اللهُ تَعالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} سُورَةُ: الحجِّ، الآيَة (32)
لكنَّ الخِلافَ، هَلْ إِذا كانَ الإِنْسانُ عَلَى غَيْرِ طَهارَةٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّ المصْحَفَ، أَوْ لا يَجُوزُ؟
جُمْهُورُ العُلَماءِ، وَمِنْهُمْ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ لا يُعْلَمُ لهُمْ مُخالِفٌ، وَكَذَلِكَ قالَ بِهِ التابعُونَ، أنَّهُ لا يَجُوزُ للِمُحْدِثِ أَنْ يَمسَّ المصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ بَدائِعُ الصَّنائِعِ (1/33)، وَالنَّوادِرُ وَالزِّياداتُ (1/117)، والمهَذَّبُ لِلشِّيرازِيِّ (1/35)، وَالكافي لابْنِ قُدامَةَ (1/81) .
ما مُسْتَندُ هَذا القَوْلِ؟
مُسْتَنَدُ هَذا القَوْلِ كِتابِ اللهِ تَعالَى، وَما جاءَ في السُّنَّةِ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
أَمَّا كِتابُ اللهِ فقَدْ قالَ اللهُ تَعالَى عَنِ القُرْآنِ العَظِيمِ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} سُورَةُ: الواقِعَةِ، الآيةُ (77 -79) قالَ جَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إِنَّ قَوْلهُ تَعالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} سُورةُ: الواقِعَةُ، الآية (79) عائِدٌ عَلَى الكِتابِ، وَالكِتابُ هُوَ القُرْآنُ الكريمُ، وَبِالتَّالي مَعْنىَ الآيَةُ لا يَمسُّ القُرْآنَ إِلَّا المطهرُونَ.
هَذا ما استدلَّ بِهِ القائِلُونُ بِوُجُوبِ الطَّهارَةِ لمسِّ المصْحَفِ، اسْتَدَلُّوا أَيْضا بِما جاءَ في كِتابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ عَنْ عَمْرِو بْنِ حزمٍ، حيثُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ حزْمٍ كَتبَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللُه عليهِ وسلَّمَ كِتابًا، وَقَدْ تلَقَّتِ الأُمَّةُ هَذا الكِتابُ بِالقَبُولِ، وَهُوَ مِنَ الكُتُبِ الشَّهيرَةِ المقْبُولِ ما في مَضْمُونِها، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ:«أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرَآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ» موطَّأٌ مالكٌ ت الأَعْظُمِيُّ: بابُ الأَمْرُ بِالوُضُوءِ لمنْ مَسَّ القُرْآنَ، حَدِيثُ رقم (260/219)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ فَقَدْ جاءَ ذَلِكَ في كِتابِهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، قالُوا وَالطَّاهِرُ هُوَ المتطَهِّرُ، وَبِالتَّالي فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَمَسَّ القُرْآنَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ، اسْتِنادًا إِلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حزمٍ، حَدِيثُ ما تَضَمَّنَهُ كِتابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لِعمْرِو بْنِ حَزْمٍ.
هَذانِ النَّصَّانِ دَلَّا عَلَى هَذا المعْنَى، القُرْآنُ والسنةُ دلَّا عَلَى أَنَّهُ لا يمسُّ القُرْآنَ محْدِثٌ، اسْتَثْنَى هَؤُلاءِ الصِّغارَ، وَمَنْ في حُكْمِهِمْ مِمَّنْ يَشُقُّ مَعْرِفَةُ حالهِمْ، مَعَ حاجتِهِمْ إِلَى مَسِّ المصْحَفِ، فَقالُوا إِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِمْ ما لا يُرَخَّصَ لِغَيرهِمْ، كَما أَنَّ بَعْضهمْ أَجازَ مَسَّ أَطْرافِ المصْحَفِ، أَي الحواشِي الَّتي لَيْسَ فِيها كِتابةٌ، هَذا كُلُّهُ تَفْصِيلٌ وَرَدٌّ في كَلامِ مِنْ قالِ بِمنعِ مَسِّ المصحفِ إِلَّا بِطَهارَةٍ .
طَبْعا هَؤُلاءِ يَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ يمسَّهُ مِنْ خِلالِ حائِلٍ، يَجُوزُ أَنْ يمسَّهُ مِنْ خِلالِ الأَجْهِزَةِ الَّتي لَيْسَتْ مُصْحَفًا، كالكُمْبيوتراتِ الكفية، الجولاتِ، الآيبادات، الأَجْهَزةُ الَّتي في أَيْدِي الناسِ، الَّتي لَيْسَتْ مَصاحِفُ، هَذِهِ إِذا مَسَّها الإِنْسانُ فَإِنَّهُ لا يحتاجُ إِلَى طَهارةٍ، في قَوْلِ أَكْثرِ أَهْلِ العِلْمِ.
أَمَّا القَوْلُ الثَّاني: الَّذِي يَقُولُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ مَسُّ المصْحَفِ مِنْ غيرِ طهارةٍ، فقدِ استندَ إِلَى أَنَّهُ لا دَلِيلَ عَلَى المنْعِ، وأَنَّ المقْصُودَ بِالآيَةِ في قَوْلِهِ:{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} سُورَةُ: الواقِعَة، الآية (78) أنَّهُ اللَّوْحُ المحفُوظُ، وَبِالتالي اللَّوُحَ المحفُوظُ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكامُ البَشَرِ، لأنَّ قولَهُ:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} سُورَةُ: الواقِعة، الآيةُ (79) المرادُ بهمُ الملائكَةُ، فَأَجابُوا عَنِ الحَدِيثِ بِأَنَّهُ المرادُ بِهِ المسْلِمُ، لا يمسُّ القُرآنَ إِلَّا مُسْلِمٌ، هَذا ما أَجابَ بِهِ القائِلُونَ بِجَوازِهِ، بِجَوازِ مَسِّ المصْحَفِ لِلمُحْدِثِ.
وَالرَّاجِحُ: مِنْ هَذَيْنَ القَوْلينِ هُوَ ما ذهَبَ إِلَيْهِ الجمْهُورُ وَاللهُ تَعالَى أعْلَمُ، وَبِالتَّالِي إِذا أَرادَ المؤْمِنُ أَنْ يمسَّ المصْحَفَ فَلْيَتَطَهَّرْ، لِقُوَّةِ دِلالةِ نُصُوصِ مَنْ قالَ بِعَدَمِ جَوازِ المسِّ إِلَّا بِطَهارَةٍ، وَبِهذا يَتَبَيَّنُ لَنا الخلافُ، لَكِنَّ الجَمْعَ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ القِراءَةُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لمنْ كانَ مُحْدِثًا حدَثًا أَصْغَرَ، وَالخِلافُ في المسِّ.
اسألُ اللهَ تَعالَى أَنْ يَرْزُقَني وَإِيَّاكُمُ البَصِيرَةَ في الدِّينِ، وأَنْ يُعَلِّمَنا ما يَنْفَعُنا، وَأَنْ يَنْفَعَنا بِما عَلَّمنا، وَصَلَّى اللهُمَّ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنا محمَّدٍ.