السُّؤالُ: حُكْمُ التعزيرِ بِالمالِ هَلِ الأَمْرُ جائِزٌ؟
الجوابُ:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأُصَلِّي وأُسلمُ عَلَى نبِيِّنا محمدٍ وعَلَى آلِهِ وَأصْحابِهِ أجْمَعينَ.
أمَّا بَعْدُ.
فهَذا السؤالُ وهوَ ما يتعلَّقُ بِالتعزيرِ بِالمالِ، سُؤالٌ مهمٌّ يَلْمسُهُ النَّاسُ في حَياتِهِمْ علَى وَجْهِ العُمُومِ، ما مَعْنَى التَّعْزيرِ بِالمالِ؛ أَيْ العُقُوبَةُ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنَ المالِ عَلَى مُخالَفَةٍ عَلَى خَطَأٍ؟
هَذا قَدْ يَكُونُ وَفْقَ التَّنْظِيمِ العامِ، كأَنْظِمَةِ المرُورِ مَثَلًا، أَنْظِمَةُ الإِقامَةِ، أَنْظِمَةُ الجوازاتُ، أَنْظِمَةُ البِناءِ وَالبَلَدِيَّاتِ، وَما إِلَى ذَلِكَ مِنَ الأَنْظِمَةِ الَّتي يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الطُّرُقِ الإِلْزامِ بِها العُقُوبة عَلَى المخالِفِ بِالمالِ، التَّعْزِيرُ بِالمالِ هُوَ هَذا المعْنَى.
طَبْعا أَيْضًا يَدْخُلُ فِيهِ ما يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَماعَةٌ مِنَ النَّاسِ، سَواءٌ كانُوا في دَائِرَةِ عَمَلٍ، أَوْ كانُوا في دائِرِةِ لِقاءِ، أَوْ كانُوا في اجْتِماعٍ خاصٍّ، بِأَنَّهُ -مَثَلًا عَلَى سَبِيلِ المثالِ- ما يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، إِذا تَأَخَّرَ أَحَدُهُمْ أُلزِمَ بِغَرامَةٍ مالِيَّةٍ خَمْس ريالاتٍ، عَشْر ريالاتٍ نحو ذَلِكَ.
ما حُكْمُ التَّعْزِيرِ بِالمالِ؟ بِكُلِّ صُوَرِهِ، عُقُوبَةُ مُخالِفٌ بِالمالِ ما حُكْمُها؟
هذِهِ القَضِيَّةُ لِلعُلَماءِ فِيها قَوْلانِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: هُوَ قَوْلُ الجُمْهُورُ مِنَ الحنفيَّةِ، وَالمالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالحنابِلَةِ، أَنَّهُ لا يجُوزُ التَّعْزِيرُ بِالمالِ بِكُلِّ صُوَرِهِ البَحْرُ الرَّائِقُ لابْنِ نُجَيْمٍ (5/44)، وَالنَّجْمُ الوَهَّاجُ لِلدِّميرِيِّ (9/240)، وَمَطالِبُ أُولِي النُّهَى (6/224) ، وَمَنْ أَرادَ أَنْ يُعَزِّرْ فَلْيُعَزِّرْ بِغَيْرِ المالِ، أَمَّا المالُ فِإِنَّهُ لا يَجُوزُ التَّعْزيرُ بِهِ، يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تعالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة: البقرة، الآية (188) وأيضًا بالآية الأخرى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة: النساء، الآية (29).
فالله تعالى نهى عن أكل المال بالباطل، وهذا منع على أن يتسلط الإنسان على مال غيره بغير وجه حق.
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» صحيحُ مسلمٍ: بابُ وضْعِ الجوائِحِ: حَدِيثُ رقم (14- (1554)).
هَذا ما اسْتَدَلَّ بِه القائلونَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِتَحْريمِ المالِ «كُلُّ المسْلِمِ عَلْى المسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، وَمالُهُ، وَعِرْضُهُ» صَحِيحُ مُسْلمٍ: بابُ تحريمِ المسلِمِ، وَخذْلِهِ، واحْتِقارِهِ، وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمالِهِ، حديثُ رَقم (32-(2564)).
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ وَالأَحادِيثِ الَّتي فِيها تَحْريمُ المالِ.
أَمَّا القائِلُونَ بِالإباحَةِوهُوَ اخْتِيارُ ابْنِ تَيْمِيَةَ. الاختياراتُ الفِقْهِيَّةُ. جَمْعُ البَعْلِيِّ (ص601) فَقالُوا: إِنَّ هَذِهِ الأَحاديثَ وَالآياتِ هُوَ فِيما إِذا أَخَذَ المالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ هُنا المالُ أُخِذَ بِحَقٍّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّعْزيرَ بِالمالِ حَقٌّ، أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَعَهُ، شَرَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ يَصِيدُ في المدَينةِ، كَما في الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ في الصَّائِدِ في المدِينَةِ «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصِيدُ فِيهِ شَيْئًا فَلَهُ سَلَبُهُ» مُسْنَدُ أَحْمَدُ حَدِيثُ رقم (1460) أَيْ يَأْخُذَ سَلاحَهُ وَعِدَّةَ صَيْدِهِ، هَذا التعزيرُ بِالمالِ.
أَيْضا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ في الثَّمَرِ المعَلَّقِ، لما سُئِلَ عَنْهُ «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ» يعني على غير الصفة السابقة، وهو أخذه لحاجة، «فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ» سُنَنُ أَبي دَاوُدَ: بابُ ما لا قَطْعَ فِيهِ، حَدِيثُ رقم (4390)، وَحَسَّنَهُ الألْبانِيُّ. فأَلْزَمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ البُسْتانِ ثَمرًا لا حاجةَ لَهُ بِأَكْلِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ غَرامَةُ ما أَخَذَ مُضاعَفَة، وَهَذا نوْعٌ مِنَ التَّعْزيرِ بِالمالِ.
كَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ في مانِعِ الزَّكاةِ: «هِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا» صَحِيحُ البُخارِيِّ: بابُ قَوْلِ اللهِ تَعالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، حديث رقم (1468). كَما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعْضِ الأَحادِيثِ، وَفي بَعْضِها قالَ: «فإِنَّا آخِذُوها مِنْهُ وَشَطْرَ مالِهِ» مُسْنَدُ أحْمَد ط الرسالةُ: بابُ حديثِ بهزِ بْنِ حكيمٍ، عنْ أَبِيهِ، عَنْ جدِّهِ، حَديثُ رقم (20041). شطرُ مالِهِ يَعْنِي نِصْفَ أَمْوالِهِ «عَزْمَةً منْ عَزَماتِ رَبِّنا» مسندُ أَحْمد ط الرسالةُ: بابُ حديثِ بهزِ بْنِ حَكيمٍ، عَنْ أبيهِ، عنْ جَدِّهِ، حديثُ رقم (20041).
مجموعُ هذهِ الأحاديثِ، والأحاديثُ الأُخرىَ، وما جاءَ عنِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، قالُوا: يَدُلُّ عَلَى جَوازِ التَّعْزِيرِ بِالمالِ، كَما أَنَّ المصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي التَّعْزِيرَ بِالمالِ ذَاكَ أَنَّ النَّاسَ لا يَنْكَفُّ خطأُهُمْ، وَلا يُمْتَنَعُ خُرُوجُ المخالَفَةِ منهُمْ، صُدُورُ المخالفَةِ عَنْهُمْ إِلَّا بِنِظامٍ رادِعٍ، وَمِنَ الأَنْظِمَةِ الَّتي أَثْبَتَتْ نَجاحَها في كَبْحِ جِماحِ المخالَفاتِ في سائرِ الشَّأْنِ ما يتعلَّقُ بِالتعزِيرِ بِالمالِ، الأَخْذُ بِالمالِ، العُقُوبَةُ بِالمالِ، فَإِنَّها وَسِيلَةٌ منْ وَسائِلِ الرَّدْعِ.
وَهَذا هُوَ الراجحُ مِنَ القَولَيْنِ: وَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى السِّياسَيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتي تُحَقِّقُ المصالحُ وَتَدْرَأُ المفاسِدَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللهُ تَعالَى أَعلَمُ أَنَّهُ لا حَرَجَ في التَّعْزيرِ بِالمالِ، لكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَعْزيرًا عادِلًا، وَأَنْ يَكُونَ عامًا لا انْتِقائِيًا؛ لأَنَّ هَذا مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ العَدْلُ.
واللهُ تَعالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنا محمدٍ.